* أغاني البحار الأربعة
* عبدالرحمن محمد رفيع
* 140 صفحة من القطع الصغير
من البحرين عاشق.. وعشقه الأكبر اجتياز بحاره الأربعة.. زورق الشعر.. ومجدافه مشاعر حاول بها اقتحام أمواج الحياة الصاخبة من حوله.. هل امكن لرحلته.. أي لأغانيه تسهيل مهمته..؟
الشعر.. والبحر.. والسفر.. والخيال.. أيضاً أربعة كبحاره الأربعة.. إلى أين وصل؟!
لقد اختار بداية أن يحرك مجاديفه على ضوء النهار حيث يستبين دربه.. البوصلة الشعرية تتحرك مع الموضوع وتتوقف حين تعصف بها رياح العتمة.. هذا ما استشعرته مع أول مفاتيح الرحلة..
بدايتها جوع.. وقلق.. ومغامرة.. فأي زاد يتزود به؟!
«بعد ان يتخم بطنه بأفانين الطعام؟!»
وأية حركة تدفع به نحو مساره.. وتعبر به مرحلة الآلام وقد أسلم نفسه إلى راحة كسولة وخجولة وهو «يرتخي فوق الاريكة وادعاً مثل الحمام»
ليقول: «آه ما اقسى حياة البائسين»..
كم يعاني كبدي من قسوة الدهر عليهم»..
معانات من اجل معانات.. الا انها معاناة غامضة مكبلة بقيود الحيرة لا تضيف شيئاً إلا البؤس له ولمن يتوجع من أجلهم.. غير كافية.
«ليتني أدرك ما سر الشقاء
ليتني..! لكنني في حيرتي
تائه فالسر خافٍ لا يبين»!
أبداً.. يا صديقي لا سِرَّ في الشقاء يصعب اكتشافه.. انه وجه حياة كما السعادة تولد داخلنا نحن البشر.. من طبيعتنا.. ومن طباعنا.. انه قدر.. الاقتدار الإنساني يحل لغزه لو أنه حاول.. الا انه لا يحاول ولا يريد لأنه كما قلت أنت يرتمي فوق الأريكة مستغرقاً في خموله ويتحدث بصوت الشكوى وحدها من المأساة دون مواسات.. وهنا تكمن الفاجعة الموجعة..
شاعرنا الرفيع يتوجه في تبرم وسخط قائلاً:
« يا أمير الشاعرين عش هنيئاً في ظلال العافية وتمتع بليالي صافية لست مسئولا.. فللناس إله في السماء سوف لن ينسى جموع الفقراء»
|
هنا يرتطم قارب شاعرنا بصخرة السلب والاتكالية المغرقة في تجردها لا تحددها.. نعم كلنا معه في ان في السماء إلهاً رحيماً بخلقه.. الا ان في الأرض أيضا من يتحملون وزر الفاقة حين لا يرحمون..
يتساءل في مقطوعته:
«يا ترى من ذا الذي يلهو بنا؟
أهو الدهر؟ ام الشيطان؟ أم ذاك أنا؟!»
بهذا التساؤل المغرق في شتاته في مقدوره ان يختصر مساحة الحيرة ليقول دون مواربة إنه «أنا وأنت وهم» المسئولون والمساءلون عن عذابات البشر حين تتحول مشاعرنا إلى حجر..
«نَمَت من الرمال».. تلك حبيبته التي بثها شكواه وشوقه.. يبدو أنها بعيدة الهوى قريبة الهوية ان يناشدها تلفه احزان الوله..
«تذكريني انني حزين
اصارع الحنين
امضي بلا رفيق
الى ضفاف الشاطئ الغريق
في لجة الألم»
الحب حين يغرق بدموعه لا تجديد المجافات ولا المناجات.. إنه ذكرى لا تُجدي فيها الذكرى متى جاءت نهايتها هزيمة.. لأن عزيمة الحب تأبى الهوان.. وترفض الاهانة..
يبدو ان شاعرنا استرجع انفاسه هذه المرة.. في مقطوعته «لأننا»..
«لأننا نقدس الحياة
فإننا نريد ان نغوص في احضانها
نغرف حتى الموت من دنانها
لكننا وا ضيعة الشباب
ما بيننا وبين ما نريد الف باب
وعالم يمسخنا
يمنعنا من اتفه الرغاب»
من يقدس الحياة.. ويمتلك ارادة الحي قادر على اقتحامها.. والالتحام مع صعوباتها بعزيمة صلبة لا مكان فيها للأسف.. والانتظار.. لكل باب مغلق مفتاح.. ولكل امل معلق مسلك.. ولكي يسلم شاعرنا الرفيع من سعار وسعير الجحيم وهو يجتر زهر العمر لا يجتزه في مستنقع القديم طارحاً على نفسه هذا السؤال:
«إلى متى نظل لا نرى؟
وحولنا الذرى.!»
أقول له: ارفع عقيرتك.. من خانه بصره لن تخونه بصيرته يا عاشق النوار والنهار..
اتجاوز مقطوعته «باحث عن الحقيقة».. وملئها القنوت لا القنوط.. وقفة ايمانية تحسب لشاعرنا في زمن اعترته ضبابية الشك.. وشراك الشرك.. لنقف معه مليّاً في ذكرياته وحواراته مع أبيه.. قبل خمسين عاماً واكثر.. قبل ان يولد:
«عندما قلت له: يا سيِّدي
أروِ لي بعض الحكايا
عن عهود رقدت خلف الزوايا»
مدخل جميل ورائع لذلك الحوار بين طفل يجهل الماضي وأبٍ يستحضر ذلك الماضي..
«استوى الشيخ على مقعده
وبدا في عينه طيف ابتسامة
ثم نادى.. يا بني:
«قبل خمسين سنة
ربما كانت ليالينا ضنينه..
ربما كانت حزينه..
غير أني عندما تأخذني الذكرى
لأيام الشباب..
لم يعد يخطر في بالي العذاب
آه.. كم كانت جميله»
نعم.. كم كانت أبيات جميلة تحدثت في سرد رائع عن الحب.. والمقاسات.. والتأوهات.. والتنهدات وجميعها ذكريات لحياة تحمل كل معاني المواجهة والتحدي في ظل شغف العيش.. وشرف الكد والكدح..
يقول له:
«أنت إن قُدّر أن تحيا طويلا في سلام.
سترى عمرك يجري..
كل عام إثر عام
ثم تصحو بعد خمسين سنة
لترى الدنيا سوى الدنيا القديمة»
ابدا لمن يراها كما كانت.. فمتغيرات التاريخ شكلت الحياة في ثوب جديد.. ثوابه مختلف.. وعقابه مختلف.. وعذابه مختلف.. وشبابه مختلف..
ومع غروب الحقيقة وقد فاتته يتغنى: .. كما لو كان شاعرنا يتمنى..
«رغم اضواء المصابيح
وأضواء ملايين النجوم
رغم هذا القمر المدفون ما بين النجوم
رغم ما لم ينطوِ فينا من الشوق الدفين
رغم لهو السامرين
أصدقاء الليل كنا!
نحن عشاق الدياجي»
القمر يا صديقي لا تدفنه النجوم لأنه الأكثر اشراقة.. والأكبر هالة.. ثم لماذا مصادقة الليل؟! أليس النهار بوضوحه الأحرى والأجدر بالمرافقة والمصادقة؟ ان الدياجي والديجور جميعها موحشة تدعو الى الفزع... وتسلم الى الجزع.. الفجر.. الصباح.. الضوء جميعها جاءت كي نستبشر ونحيا.. أليس كذلك؟!
لماذا كل هذا؟! يبدو ان درب الحقيقة أضاعه..
«آه.. يا درب الحقيقة
انت ضيعت لياليَّ سدى»
عندما اغريتني يوما فأسرعت لبابك»
انه درب الشك والوهم الذي يأخذ صاحبه إلى المتاهة وليس درب الحقيقة الذي يوصل إلى الأمان»
اتجاوز قصيدته «المسيح» الى «مقطوعته» فدائي..
«لم اعد أحلم بالأمس
بشطآن.. وحور
لم اعد احلم حتى بسويعات حبور
لم يعد قلبي عصفورا غريرا
فأنا بعد هبوب العاصفة بعد ان ضاعت مجاديفي في تيه البحور.
صرت نسرا..
طرت.. حلقت على كل الجسور..»
بكل هذه الجسارة تحول من عصفور إلى نسر.. ومن حمامة إلى صقر.. إلى فدائي يواجه رياح الخطر حاملا في كفه ميلاد نهار جديد..
ويخاطب سيده وقد استوت القصيدة في مطبخ الشعر متوهجة كالنار!
يا سيدي..
قصائدي حروفها غمستها بالدم.
عجنتها بأدمعي.
أرقتُ طول الليل. لم انم..»
عماذا كان يتحدث.. ومن ترى كان يعني بهذا التفجر الشعوري الذي استلب منه سباته؟!
«موضوعي المفضل الإنسان»
نعم الموضوع اختار شاعرنا.. الا انه في يومياته كفدائي تحول الى جائع مفترس يبحث عن ضحية اكثر شراسة وافتراسا..
«اذا ما اطبق الليل
ونام السهل.. والتل
خرجنا من قواعدنا.
وصوت الذئب يؤنسنا
لنبحث مثل هذا الذئب
عن صيد»..
أي صيد يعني؟..
بيته الأخير يحدد لنا ماهية الصيد بعد ان ودعته ليلى قائلا لها:
«سنفترق.
وقلبي سوف يحترق.
غدا سيشيع بين الحي
انك في فلسطينا»..
ويختتم قصيدته الطويلة بهذا البيت:
«فإما انت صهيون
واما النصر والعرب»
وليته اضاف «ياء المخاطبة» قبل كلمة صهيون لكانت انسب..
هذه المرة شكواه غرابية غريبة..
«هواك معذبي في الحب صاب
ووصلك كالثريا لا يصاب
وهذا الخافق الملعون امسى
ولا صبر لديه. ولا احتساب»
ماذا يريد من غرابه.. او من اغترابه بمعنى أصح؟!
يبدو ان صديقه الغائب في القارة البعيدة كان بطل المناجاة...
«ايا خلي بأرض الهند قل لي
ايوجد للهوى فيها مجاب؟!
لعلي استريح من الليالي
فإن قيامه فيها خراب.
بعثتَ الي تشكو من غراب
يجيء إليك .. والدنيا سحاب
وهذي الأرض ما ظلمت عليها
من الاحياء كما ظلم الغراب..»
ابيات تنضح بالتشاؤم.. وتضج بالنحس.. ربما كان غراب البين فيها قاسما مشتركا أعظم..
وبين التشاؤم والحيرة خط رفيع اسمه القلق..
«نادى الربيع. ونادت الكتب
ومدامعي في الخد تنسكب.
وانا مؤرقة. معذبة
من منهمو أجفو؟ ومن أهب؟
العقل يصدمني بحجته.
والقلب يلفحني فألتهب»..
بين نارين يتأرجح الخيار.. العقل. والقلب. الروح والجسد.. واذا كان القلب يلفح فإن العقل لايصدم وانما ينفح ويأخذ في ثبات.. انه الاجدر بالقبول حين يُحكَّم..
ومن فم شاعرنا أؤكد هذه الفرضية في مقطوعته «الموت والصدى».. لنستمع اليه..
«اقول للنفس وقد ساءها
وضرها حالي انظري الانفسا
ما أكثر الناس. ولكنهم
مثلي يثيرون البكا والأسى
تجرى بهم للموت اقدارهم
من بين ما تسقيهمو ما قسى»
حيث ينتهي به التفكير الى مرحلة اليقظة
«وقال صوت العقل هيا افق
فصوت هذا القلب لن ييأسا
لن تنتهي شكواك في عالم
تريد فيه الخير ان يرأسا»
هكذا يرى شاعرنا من خلال تجربته.. وربما من خلال نظرته إلى عالم لا يتحكم العقل في مساره وفي مصيره.. وهو ما يعانيه البشر طيلة مسيرتهم في صراعهم الطويل بين الخير والشر. بين الحق والباطل. «العداد والعجوز» و«في رفاق افلاطون» و«خواطر عانس» قصائد ثلاث تجمع بين الغزل.. والخطاب الشعري.. ومثلها «البدر المعجب» الذي طرقت الباب من وراء حجاب فأشعلت نار الحب في قلبه وانشدها ابياتا رقيقة إلا انها صدته. واشاحت عنه رافضة شعره.. وفي النهاية ينكشف المستور...
كان حلما مزعجا ومؤرقا في نهايته:
«كشفت عن الوجه الجميل لثامه
فماذا رأت عيني اذا لم تر الهولا
رأيت عجوزا عقربا ذات مخلب
تحيل بياض الصبح من قبحها ليلا
وقد قمت مذعورا من النوم صارخا
ولو لم يكن حلما لأصبحت في القتلى»..
انتهى كابوسه.. ومازال في قاموسه الشعري بقية.. بعد نوم اقض مضجعه بأحلامه الموجعة قُدر له ان يستفيق على «صحوة النفس»:
«العقل نبراسي الذي اهتدي بنوره في صحوة كالكرى ان هبت الريح ففى ظله مأوى أمين لا يمل القرى لكنني اخاف من هاجس اخاف كالطفل يخشى السرى»
|
من يتخذ من العقل نبراسا لحياته لا يخشى هاجس الحركة.. ولا وساوس الظن.. ومشكلة شاعرنا الرفيع في ديوانه ان يهوى العقل وينشده ومع هذا تصطاده هواجس النفس وتسلمه إلى التردد الى درجة الضياع.. كيف لا ومخاوفه من الشيطان استحوذت على تفكيره إلى درجة الصراع النفسي والحسي دون ان يخلص إلى خلاص يهدئ من روعه..
«الشيطان» آخر قصائد الديوان الذي حمل الينا تجربة واعدة واعية تنم عن حس شعوري مرهف لشاعرنا عبدالرحمن رفيع غنى فيه لبحاره الأربعة كما حددها.. الا ان اغنياته استغرقت كل بحور الشعر.. دون ان تسلمنا إلى الملل.
(*) ص.ب 231185 - الرياض 11321
|