منذ دهر تَواجَه المرتحلُ والمستقرُ في صحراء سمَّاها التاريخ عربية، فامتشجت أواصرها قسوة وليناً. تربة مترعة للنخل والريح والمطر ورمال أسيفة مفتوحة للرحيل.. فئة بدوية وأخرى حضرية، هكذا ميَّز صاحب المقدمة المجتمعات، ورأى «ان أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأنها أصل لها».. وعند الاطلاع على المقالات والدراسات الاجتماعية يحار المرء في فهم أساس التركيب الاجتماعي التاريخي لمجتمعاتنا، فيصور تارة كنمط رعوي بدوي أو زراعي ريفي تسوده العلاقات القبلية، وتارة كمجتمع بدائي أو بدوي استقر حديثاً وما زال تحكمه القيم البدوية والعلاقات القبلية، ويشطح الخيال بالبعض، حين يرى أن هذا المجتمع بُني على أساس إقطاعي قبلي بدائي.. إلخ، ويبدو أن هذا التناقض ليس نتيجة طبيعية لنسبية العلوم الإنسانية، بقدر ما هو نتيجة عدم فهم طبيعة الأنساق الاجتماعية وإدراك وشائج الجماعات من قبل باحثين غرباء «بالمعنى المهني» عن هذه المجتمعات، ومن ثم تطبيق مفاهيم ومقاييس قسرية تعطي استنتاجات مشوهة، فعلى سبيل المثال تترادف لدى بعض الباحثين أغلب أو كل المصطلحات التالية: رعوي، صحراوي، بدوي، قبلي، ريفي، بدائي، دون استجلاء الأبعاد والمدلولات الضمنية لهذه المصطلحات عبر سياقها الحضاري الغربي الذي انبثقت من خلاله، ودون التمعن في مدى صلاحية هذه المفاهيم لمجتمعاتنا.
وعلى النقيض، كثيراً ما تظهر دراسات تُعنى بمسائل التنمية، والتغيير، والعلاقات الاجتماعية، بلا رؤية أو اعتبار للأبعاد القبلية أو القيم البدوية أو للقبيلة كتنظيم اجتماعي، وكأننا مجتمع مدني بمؤسساته الراسخة منذ أمد بعيد، وحتى عندما نجد من يعتني بهذه الرؤية تكون لديه آنية أو قطعية، فبعضنا يرى المرحلة التاريخية السابقة من منظار المرحلة الحالية ويحمل الماضي ما لا يحتمل، وبعض آخر يراها من خلال تاريخ الجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها فيعمم ما لا يعمم، ونبتعد كثيراً حين نراها عبر نفق نظري «إيديولوجي» مسبق، فنلج النفق محفوفين بنور مدخله لنخوض غمار التيه إذا ما تقدم بنا الدربُ!
ومن أكثر المفاهيم التي يمكن أن نجد حولها ميوعة في التأطير وفلتان المعنى مما يعيق معايرتها وتحليلها وفقاً لسياقاتها الحضارية هي المفاهيم ذات الارتباط بالقبيلة «أو القبلية» والتحضر، مثلاً، نجد في الماضي أن القبيلة أو العشيرة هي الضابطة الاجتماعية في البوادي، وإليها مرجعية الانتماء، ولكن في الحاضرة القديمة نواجه غموضاً في تحديد الانتماء، وضآلة في التحليل، وضبابية في المصطلحات، فهناك خلط شائع بين مفهومي «التنظيم القبلي» و«البداوة»، فالبعض يرى أن هذه مرتبطة بتلك حتماً، وفي ذلك خلل، ذلك أن القبيلة هي تنظيم اجتماعي، بينما البداوة «الترحال» هي تصنيف ونمط معيشي، فكثيراً ما نلاحظ مجتمعات مستقرة منذ القدم ويسود فيها التنظيم القبلي، صحيح أن من أهم عناصر البداوة هي القبيلة، لكن العكس غير صحيح.
كذلك يلاحظ الخلط بين التصنيف القبلي وبين القبيلة كسلوك وتنظيم اجتماعي وربما معيشي. فالتصنيف القبلي يستمد جذوره من التراتب الاجتماعي أو نمط المعيشة والقدرة الاقتصادية. ويرى فؤاد خوري: «أن الإصرار على الجذور القبلية القديمة رمز من رموز الارتقاء الاجتماعي في الحاضر، وهذه صفة من صفات المجتمع العربي بفئاته القبلية والقروية والمدنية»، ولابن خلدون في مقدمته رأيٌ مشابه. «يلاحظ في مقتطف خوري أنه ذكر القبلية ويبدو أنه يقصد البدوية، وهذا من ضمن الخلط الذي أشرت إليه».. فالقبيلة، حسب وجهة النظر هذه، بقايا رمز، لا يعدو كونه مجال مفاخرة أو ذكرى.. وهنا نتساءل: إذا كانت أعراف القبيلة وقيم البداوة وثقافتها تُهيمنُ على حياة بعض المجتمعات العربية ذات الأصول البدوية، فهل مجتمعاتنا ذات الأصول الحضرية هي حقاً حضرية مدينية «ناهيك عن أن تكون مدنية» أم ريفية؟ هل هي بدوية؟ أم ربما مزيج من هذا وذاك؟ أم شيء آخر لم يتداركه فقهاء الاجتماع.
من هو المجتمع البدوي؟ هو المجتمع الذي يعيش على الرعي وينتقل وراء الكلأ، حسب المعجم الاجتماعي.. ولكن د. مصطفى حسنين ينبه بأن الركون إلى المعيار المهني وحده غير صحيح، بل ينبغي إضافة معيار آخر هو استقرار القيم البدوية، ويؤكِّد د. فوال أن النسق العام للمجتمع لا يضم ثنائيتين فقط، بل ثلاثية حضري/ريفي/ بدوي.. بينما يصرُّ البعض على أن البدو هم جزء من مجتمع الريف.. فيما يرى آخرون أن المجتمع الريفي يختلف عن البدوي باعتماده على الفلاحة وريع الأرض وحاجته للمدن، فالريفيون بذلك جزء من المجتمع العام ولا يعيشون معزولين، في حين أن عشائر البدو تتميز بالعزلة والترحال، واكتفائها الذاتي واستقلالها السياسي، ومن الأسئلة المثيرة التي لم يُلتفت إليها هو إمكانية الارتداد من التحضر أو التريف إلى البداوة في بعض المراحل في سنوات الجدب والقحط، أضف إلى ذلك، أن البداوة أنماط، فهناك بداوة الصيد والرعي والزراعة غير الدائمة، وهي أيضاً مستويات فهناك البداوة الخالصة والجزئية والاستقرار الجزئي أو النصف حضرية كما يسميها د. جبور.. ويضيف بعض الدراسات مصطلح بداوة الاستقرار الكامل، وهذه لا تزال غامضة وغير مطروقة منهجياً.
غاية القول إنه إذا كان مفهوم القبيلة واضح المعالم فإن الغموض يكتنف البعد القبلي في العديد من الأنشطة الحضارية في المدن العربية، والغموض أيضاً يشوب كثيراً من الأسس الاجتماعية والانثروبولوجية لمجتمعاتنا السابقة والحالية، مما يؤثر سلباً في كثير من المشاريع الحضارية «اقتصادية، اجتماعية، سياسية»، لأنه بدون فهم طبيعة مجتمع ما وبنيته السابقة وأساسه التاريخي يصعب وضع برامج تنموية وخطط تطويرية وبناء مؤسسات المجتمع المدني المنشود.
|