تقرير ثري وعميق كتبه مارتن أورت نشر في العدد السادس من مجلة «دوتش لاند، الصادر في شهر ديسمبر 1994م، تناول فيه المسيرة العلمية لأستاذ الاقتصاد الألماني، راينهارد زلتن، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد لعام 1994م، وتطرق لأبحاثه في تطوير نظرية اللعب Game Theory. عمق التقرير وثراء معلوماته يفرضان على القارىء الجاد التمعن في حياة هذا الاقتصادي الذي أوقف حياته للعلم وانهمك في الدراسة والبحث لأكثر من 40 عاماً، وانصرف، كما يقول أورت، إلى الأمور التي جعلته ينال جائزة نوبل للاقتصاد، أي إلى الرد على الأسئلة التي يطرحها بنفسه على نفسه.
نظرية اللعب، وضعت في عام 1944م وكانت خطوة مهمة في تأطير علم الاقتصاد وتأكيد قدرته على التعامل مع المتغيرات الكثيرة التي تؤثر على القرارات الاقتصادية والسياسية بسبب ارتباطها بالانسان، هذا الكائن الذي لا يستقر على حال. وتضافرت جهود الكثير من علماء الاقتصاد الغربيين على تطوير نظرية اللعب، وأصبحت مكتملة إلى حد بعيد، ولكن زلتن يقول إنها ما زالت «تحتاج إلى التطوير، والشيء الذي بدأ الآن هو التحول عن الانسان الذي يتصرف بمنطق اقتصادي بحت، أي عن الانسان العقلاني مائة بالمائة، والذي لديه امكانات غير محدودة للتفكير ولإجراء العمليات الحسابية. فينبغي تعديل نظرية اللعب من نظرية تنطلق من الحالة المعيارية المثالية إلى نظرية تنطلق من الحالة الوضعية الواقعية.
أما نظرية اللعب القائمة على التصرف العقلاني البحت فستبقى حية كنوع من الفلسفلة. ويضيف زلتن بأن أبحاثه الحالية تتركز على «نظرية العقلانية المشروطة». ويقول إن نظرية اللعب، يمكن تطبيقها في كثير من المجالات ابتداءً من القضايا العسكرية ومروراً بالعلوم السياسية ووصولاً لعلم الأحياء. ولقد حقق علم الأحياء بالذات تقدماً كبيراً في الأعوام الأخيرة باعتماده على قواعد نظرية اللعب. وهذه حالة لا تتكرر كثيراً، وهي أن تكون طريقة من طرق العلوم الاجتماعية مثمرة في العلوم الطبيعية أيضاً. وحول سؤال عما تقدمه نظرية اللعب لرجال الأعمال، يقول زلتن، إنها أقرب إلى النموذج التفسيري منها إلى إعطاء تعليمات محددة عن التصرف الصحيح، غير أن رجل الأعمال المتدرب على نظرية اللعب يكون أكثر قدرة على استيعاب حالة معينة من الشخص غير المطلع على هذه النظرية. وهذا شيء يغفل في كثير من الأحيان».
هذه المقتطفات من أقوال زلتن، تقودني إلى سؤال كبير. لماذا يجب أن نقرأ؟ والإجابة «النموذجية» لكي نستفيد. وبصرف النظر عن «معضلة» مستوى وموضوعية ما ينشر على الصعيد العربي و«غياب» الطرح الأكاديمي الجاد و«انزواء» الفكر العربي و«تنامي» الشعارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الجوفاء، إلا أننا يجب أن نصمد ونقرأ. الشعوب التي لا تقرأ تحكم على نفسها بالموت، وكم عاش قوم وهم في الناس أموات. فالحياة الحقيقية أعمق من أن تختصر في التنفس فقط، فهل نحن حقاً نقرأ لكي نستفيد؟
إذا كان الجهل العربي بأصول نظرية اللعب ينعكس على الأداء الاقتصادي الخاص فقط، فقد يكون علاج ذلك ممكنا، إلا أن جهل بعض السياسيين العرب بأصول هذه النظرية يعد كارثة تلحق الأضرار بحاضر العرب ومستقبلهم.
ولعل المصير الذي انحدرت إليه عملية السلام في الشرق الأوسط يمثل الثمن الذي دفعه العرب نتيجة لقصر النظر وغياب التفكير الاستراتيجي في بحث ودراسة القضايا السياسية. اسرائيل، وهي جسم الغرب في عالم العرب، استثمرت نظرية اللعب ودخلت عملية السلام برؤية مستقبلية مدروسة، بينما اندفع بعض العرب إليها بسذاجة وارتموا في أحضانها بالتطبيع ليجدوا أنفسهم في مأزق، وقد فقدوا موقعهم التفاوضي السابق فصدق فيهم قول الشاعر «من يهن يسهل الهوان عليه». عملية السلام في الشرق الأوسط لعبة سياسية خسر فيها العرب. نلعب ونخسر ويلعبون ويكسبون. ترى.. إلى متى؟
رئيس دار الدراسات الاقتصادية - الرياض
|