وصلني سؤال يقول:
هناك مشكلة يعاني منها أحد الإخوة، وهي: أنه يتكلم دائماً بنفسه كلام كفر وهو لا يرضاه، ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكنه في بعض الأحيان عندما تتكلم نفسه كلمة كفر وهو أيضا لا يرضاها ينسى ان يتعوذ بالله من الشيطان، وهو يحاول أن يصف هذه اللحظة بأنها لحظة غفلة، فهل يكفر؟
السؤال الثاني: في بعض الأحيان يتكلم الإنسان كلاماً لا يشعر أنه تكلم بالكفر، ولكنه بعد أن ينطق به يشعر بأن هذا الكلام كُفْر، وهذا الكلام يتكلم به الإنسان في نفسه، فما حكم هذا؟ أفيدونا أفادكم الله.
الجواب:
ظاهر من سؤال الأخ أنه يعاني حالة من الوسواس القهري لا يملك دفعها، فيحدِّثه الشيطان أنه تكلَّم الكفر في نفسه ولم ينطق به، فهذا لا يضر ولا يؤثر، وعليه الاشتغال بالذكر، وطلب العلم، والتعوّذ من الشيطان الرجيم، ويصلكم جواب سابق حول الوسواس وطرد الشيطان. جواب آخر هذا الذي تشتكي منه هو من جنس ما شكاه الصحابة - رضي الله عنهم - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا - كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم «132» عن أبي هريرة - رضي الله عنه - «إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان». وفي لفظ لأحمد «9876» وغيره: «ذاك محض الإيمان» وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «شكوا إلى رسول الله ما يجدون من الوسوسة، وقالوا: يا رسول الله، إنَّا لنجد شيئاً لو أنَّ أحدنا خرَّ من السماء كان أحب اليه من أن يتكلم به، فقال: ذاك محض الإيمان». وهو في المسند «24752» وفي سنده شهر بن حوشب، وفيه مقال، لكن يغني عنه الحديث الذي قبله.
فهذه الأفكار والخواطر الفاسدة التي تدور في أخيلة الناس هي مما يلقيه الشيطان في نفوسهم، وقد عفا الله عنها، كائنة ما كانت؛ لأنه لا حيلة للإنسان في دفعها، وأحياناً هي نوع من الوسواس القهري الملح. فليطمئن الأخ الكريم بالاً، وليقر عيناً، وليهدأ نفساً، فإنها لا تضره أبدا، بل أقول: ولا ينزعج منها، لأنها علامة على الإيمان، وكما يقول بعض العارفين: هذا شك اليقين، وهو مقبول، بخلاف يقين الشك فهو مذموم، ولا حاجة إلى أن يشعر المرء بخصوصية الوساوس التي تعتريه، فإنها عند الآخرين تماماً بجملها وتفصيلاتها، وان كان الجميع لا يبوح بها لعظمة ذلك وشدته على الإنسان. لكن لا يتوقع من الشيطان أن يحتشم عن شيء، ولا يتعفّف عن خاطر أن يلقيه على المسلم، سواء فيما يتعلق بالله، أو بالغيب، أو بالملائكة، أو بالأنبياء.
وهناك طريقة جيدة للتخلص من هذا الخوف الذي يعتري الإنسان عند هجوم الوساوس عليه، وهي: أن يستحضر أن كل صورة تخطر في ذهنه فالله - تعالى - بخلافها، إذ لا يمكن أن تتخيله الخواطر، ولا تتصوره الأذهان، ومهما أطلق المرء العنان لخياله فلا يمكن أن يكيِّف رب العالمين وذاته وصفاته، ولذلك قال العلماء: «كل ما خطر ببالك فالله ليس كذلك». وبهذا تعلم أن هذه التصورات والخيالات والخواطر الرديئة، وإن كان الشيطان ألقى في قلبك أنها تتعلق برب العالمين، فإن الحقيقة غير هذا، والصورة التي في رأسك صورة الشيطان، وكل نقص يلحقها فهو متعلِّق به. وبهذا تندفع الوساوس ويخفت أثرها. وقد ورد في السنَّة توجيهات بهذا الخصوص. منها: ما رواه الشيخان البخاري «3276» ومسلم «134» عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فاذا بلغه فليستعذ بالله ولينتهِ». وفي لفظ لمسلم «134»: «فليقل آمنت بالله» وفي الصحيحين البخاري «7296» ومسلم «136» بنحوه عن أنس - رضي الله عنه - وفي لفظ لأحمد في المسند «10957»: «قولوا: الله كان قبل كل شيء، والله خلق كل شيء، والله كائن بعد كل شيء». وفي بعض الآثار «فليقرأ قل هو الله أحد».
والخلاصة أن العبد مأمور بمثل هذا، آمنت بالله، أعوذ بالله من الشيطان، ولا يضيره إذا فعل ما أُمِر به ما وراء ذلك. وذلك لأن الآدمي لو ألقى عليك شبهة جادلته بالحجة والعقل، لكن الشيطان كلما ناظرته بشيء زاغ إلى غيره، وقد لا يثير شبهات أصلاً، ولكنه ينفث في روعك صوراً سيئة تقشعر منها الأبدان، وتأنف عن وصفها الألسن، ويوهمك أنها صورة رب العالمين، ومثل هذا نص أهل العلم كالخطَّابي، والمازري، وغيرهما على أنها تندفع بالإعراض عنها وعدم مطاولتها. فالشيطان أحياناً كالكلب، إذا التفتَّ إليه شاغلك ونبحك وآذاك، وإذا مضيت في سبيلك انقمع ورجع وبحث عن غيرك. وربما كان يكفيه أن يزعجك ويؤذيك ويؤلمك بمثل هذه الخواطر، ولو كان يعلم أنها لا تؤثر في دينك ولا تضرك، لكنه يستغل جهل بعض الناس فيجلب عليهم بمثلها، ويوهمهم أنها توبق دنياهم وأخراهم، حتى ليتمنى أحدهم أن لو كان من أهل المعاصي والكبائر وكان سالماً من هذه الخواطر، وهذا يفتح عليه باب شر، حتى إن منهم من يترك الطاعات، لأنها تجر مثل هذه المشاعر المكروهة، ولو علم وتيقَّظ وتفطَّن لما ذكرناه لكفاه الله، فالعلم خير كله، وإنما يؤتى المرء من قبل جهله وعماه، والله الهادي.
وجواب آخر: وصلت رسالتكم وصلكم الله بطاعته، ونشكركم على التواصل عبر البريد الإلكتروني. ما شرحته من حالك والأوهام التي تنتابك هو كما شرح لك الأطباء داخل في الوسواس القهري، فلا يضيرك هذا ولا يؤاخذك الله عليه، لأنه خارج عن إرادتك، وقد قال الله تعالى {لا يٍكّلٌَفٍ اللهٍ نّفًسْا إلاَّ وٍسًعّهّا} . البقرة 286» وقال: {لا يٍكّلٌَفٍ اللهٍ نّفًسْا إلاَّ مّا آتّاهّا} . «الطلاق: 7» وقال: {فّاتَّقٍوا اللّهّ مّا اسًتّطّعًتٍمً} .«التغابن: 16»، وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الذي رواه الشيخان البخاري «5269» ومسلم «127» عن أبي هريرة - رضي الله عنه: «إن الله - عز وجل - تجاور لأمتي عما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم»، وهذا في الحالات العادية، فكيف بالمبتلى بالوسواس الذي قد توسوس له نفسه أنه تكلم أو عمل، فيدخل في متاهة لا قرار لها. فعليكِ أولاً بالاستمرار فيما أنتِ عليه من القراءة والأذكار والأوراد والصلوات والأدعية، ونحوها من الأسباب الشرعية التي تحصِّن الإنسان من الشيطان، وتعينه على مقاومة الأمراض النفسية. وعليكِ ثانياً بمتابعة العلاجات النافعة التي يصرفها لك الأطباء الموثوقون، خصوصاً ما تجدين له أثراً في حالتك. وعليك ثالثاً بالحرص على الانهماك والانشغال بالأعمال المختلفة التي تستنزف طاقتك وتستفرغ جهدكِ، سواء كان ذلك في عمل المنزل أو الوظيفة - إن كانت -، أو غير ذلك. وأوصيكِ بالعناية بأن تعيشي حياتك كأحسن ما تكون، عناية بملبسك، وتبعلاً لزوجك، واهتماماً بأطفالك، وان تعدي هذا قربة وزلفى إلى الله - تعالى -، وستجدين لذلك أثراً طيباً. كما أوصيك بالمشاركة في المجالس الطيبة من حِلَق العلم والذكر والجلسات الخيرية والمراكز والمنتديات النافعة، ومثلها تجمعات الأقارب والجيران والأصدقاء، ولعل ذلك أن يصرف تفكيرك بعض الشيء عن هذه الأفكار. وتذكري - أبداً - أن ضيقك وتبرمك أكبر دليل على عدم تقبلك لهذه الوساوس، وبالتالي فهذا الضيق علامة الإيمان، وفيه رفعة لدرجاتك وتكثير لحسناتك، ومهما خطر ببالك فالله ليس كذلك، لا تدركه الأوهام ولا تحيط به العقول، ولا تناله الظنون - سبحانه وبحمده -. كفاك الله ما أهمَّكِ، ورفع بحوله وقوته عناءك، وشفاكِ وعافاكِ، وأصلحك لنفسك وولدك.
وتفضلوا بقبول فائق التحية والتقدير.
|