Saturday 11th January,2003 11062العدد السبت 8 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

أسود من ورق..! أسود من ورق..!
عبدالعزيز السماري

لا يتوقف صديقي القديم كعادته عن الشكوى من لسعة برد نجد القارس، ولا من خوفه الدائم من تأثيرات الحرب الجديدة، ومن أشياء أخرى تزيد من توتره وقلقه على مستقبله ومستقبل أبنائه، وهو أيضاً لا يتوقف عن تناول تجربة «بناء مسكنه الخاص»!، ولا عن التعبير عن دهشته وكدره بسبب ظاهرة المقاول غير السعودي الذي صار يملك حق العمل في السوق المحلية وحق الاستقدام للعمالة الأجنبية، وأخذ يتحدث عن نيته إغلاق «مطعمه»، والسبب أن «مستثمراً أجنبياً» آخر، فتح مطعماً جديداً على نفس الشارع..، ولأنه، لايستطيع منافسة أسعار «المستثمر» المنخفضة، قرر التوقف عن تقديم الخدمة الاستهلاكية... وأن مايحدث في ساحة العمل المحلية حسب رأيه، يدشن دخول قوة العمل المحلية لعصر حرية السوق الجديدة، فالمهني أو مقدم الخدمة «الأجنبي» صار يملك ما كان يعتقد المواطن أنه يتميز به عن غيره من الأجانب،..!!،
ومفهوم الاستثمار الأجنبي في مشاريع تقديم الخدمات الاستهلاكية، يحمل خصوصية سعودية، ويدخل ضمن جذور ثقافة الاستهلاك المهيمنة على العقلية الاقتصادية، فالمجتمع الذي كان ينتظر من يخرجه من دوامة الاستهلاك إلى حلقات الإنتاج المثمر، لازال يحلم بالشركات الكبرى والمصانع الكبيرة التي ستأتيه عبر نافذة الاستثمار الأجنبي، ليتمكن من عبور مرحلة اقتصاد التجارة إلى بوابة المجتمع الصناعي...
وفتح السوق، والاستثمار الأجنبي، ورفع القيود، وحرية التجارة، تشكل أركان عقيدة الاقتصاد الجديد التي تبشر بها الولايات المتحدة، وتفرضها تعليمات البنك الدولي، لكنها عن قصد تستثني حق حرية الصناعة، فالتصنيع التقني والثقيل يقف ضد مصالحها التي تحارب من أجلها، وهي عقيدة أصولية أقرب إلى الأيديولوجيا منها إلى العلم، تنسج عن حرية السوق أساطير أيديولوجية، فتصوره باعتباره الدواء الشافي من كل الأوبئة في كل الأزمان، وفي كل البلدان على اختلاف ظروفها.
والنظام العالمي الجديد يعتمد على أصول إطلاق حرية التجارة عن طريق إزالة كل أشكال الحماية التعريفية وغير التعريفية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر وإطلاق حرية حركة رأس المال.. وبرامج التكيف الهيكلي، التي راح البنك والصندوق الدوليان يروجانها في الدول العربية، ماهي إلا ترجمة لما يسمى اجتماع واشنطن، أي أنها برامج تلعب فيها الإدارة الأمريكية الدور القيادي، كما أنها تعبّر عن مصالح الشركات العابرة للمحيطات في وول ستريت، كان آخر مشاريعها الشراكة الأمريكية المغاربية، والتي تدفعها الشراهة الأمريكية في مد أذرعه شركاتها الكبرى للأراضي المغاربية المهيأة للفتح الجديد...
والأمريكيون لايتوقفون عن «فرض» النصيحة باتباع العقيدة الانكلوساكسونية في حرية التجارة، أي تفكيك (تخصيص) قطاع الدولة من أجل تحرير السوق، وهناك من يؤكد ان الحرب الجديدة في الشرق هي لنشر تلك الأصولية الجديدة، ومحاربة الأصولية الإسلامية، لا لسبب إلا لوقوفها ضد مصالحها الاستراتيجية، وهما بالمناسبة أعداء لايفهم بعضهما البعض جيداً، بالرغم ان كلاهما يؤمنان بمبدأ «الفتح» والانتصار في سبيل نشر ما يؤمن به، ولكنه إيمان مبني على قواعد متباينة تماماً، فمفردات لغة السوق الجديد، لا تمت بأي صلة لأصول المد الإسلامي، والذي يبشر بدعوة إلهية، تنادي بمحاربة الكفر والظلم والباطل الظاهر في برنامج النظام العالمي الجديد حسب وجهة نظرهم، وضمن مشروعية فتح الأمصار لنشر الدعوة الصحيحة، بينما أصولية السوق الجديد تدعو «لفتح الأسواق» باسم الله أو تحت مسميات مثل النظام العالمي الجديد. فقد كان السيد كينيث لاي رئيس شركة «أنرون»، وهو الذي لقبته مجلة الايكونوميست بمسيح الطاقة، يقول «أؤمن بالله وأؤمن بالسوق»، وجاء في تصريح للسيد جيف سكيلنغ الرئيس السابق لشركة أنرون في حديث إلى مجلة «بيزنس ويك»: «إن الملائكة تحرسنا ففي كل الأعمال التي قمنا بها أثبتنا أننا الأفضل»، ولكنه إيمان ما لبث إلا أن خرّ صريعا في قاع الإفلاس بعدما بلغت مداخيلها في ذروة أرباحها، أكثر من 100 مليار دولار.
ومن أهم التحديات في دول الخليج، القدرة على اللعب في محافل السوق الدولية المفتوحة، فاللعبة الجديدة خداع سقطت في حبائله دول، شعوبها أكثر ملاءمة لأساليب التنمية الجديدة، فالأرجنتين والارغواي والبرازيل، وبيرو وباكستان وبنغلادش وأيضاً مصر، لم تستطع تحقيق نمو اقتصادي عن طريق قبول شروط الغزو الجديد لقوى اقتصاد دول متقدمة جداً، كأوروبا وأمريكا، ومن خلال اتباع روشتة البنك الدولي «المحددة»، والدول الخليجية بدورها غير مهيأة لتحقيق تقدم صناعي أو جذب مستثمرين أجانب لبناء صناعات ثقيلة وتقنية، فالنمط الاستهلاكي والخدمي الموروث من سنين الطفرة، لازال يؤثر حتى على قرارات الاستثمار المحلية، واستراتيجية الموارد البشرية لم تحقق أهدافها في الخطط الخمسية، وتلك معضلة في غاية الخطورة، ففي بلد أغلب سكانه غير مؤهلين للمشاركة في برامج التنمية الصناعية، وتوجد بينهم نسب من البطالة الحقيقية والمقنعة، سيكون من الضرر البالغ ان تزيد من حجم طاقة العمل في المجتمع عن طريق ادخال مستثمرين «مهنيين» صغار يقدمون خدمات استهلاكية، هدفهم الأوحد هو فقط تحويل أموال إلى الخارج، وهو ما سيزيد من نزيف المال الذي مصدره بيع ثروات طبيعية.
وعندما مارس قادة فتح الأسواق الجدد، أدوات الضغط السياسي للدخول إلى أسواق دول الشرق الآسيوي، واجهتها نمور، تجيد فن الذود عن عرينها، من خلال التدخل الكثيف للدولة، التي قامت بسياسة معاكسة على طول الخط لوصايا عقيدة السوق الانكلوساكسونية، وفرضت قيودا صارمة على حركة القوى الاقتصادية في السوق المحلي،: فبدلا من حرية التجارة طبقت سياسة حمائية صارمة، وبدلا من ترك أسعار السلع تحدد وفق آليات السوق العفوية قامت بتحديد الأسعار، بل فرضت أحياناً «أسعاراً خاطئة» بشكل متعمد من أجل دعم أنشطة بعينها...
وربما لهذه الأسباب، أطلق وصف النمور الآسيوية على اقتصاديات تلك الدول، فالقوة والحماية سمة من سمات النمور التي لا تقبل الهزيمة والرضوخ أمام العدو الخارجي، وما يحدث في عرين النمور من منعة وقوة اقتصادية، جاء نتيجة لتطبيق استراتيجية صناعية لإقامة الصناعات الثقيلة وتوطين التكنولوجيا الحديثة، (وليس سياسة الانفتاح التجارية التي تقوم على حرية قوى السوق)، ولم تعتمد كوريا الجنوبية على الواردات من رأس المال الأجنبي وإنما فرضت قيودا صارمة على مايرد من رأس المال، واستثنت من ذلك ما يتوافق مع خططها «الصناعية»، لا التجارية..
أما طيبو الذكر «العرب».. فقد تفننوا في إطلاق الأسماء على «الأسد»، ولكنهم لسبب ما، لم يتمثلوا بأهم صفاته، وطبعه الذي يمنحه حق البقاء رغما عن إرادة الوحوش الراغبة في إحكام القبضة على مخلوقات الغابة الكونية، فصار «سوقهم» ميداناً مفتوحاً، تخترقه الذئاب الغازية من كل صوب، وتدنسه حشود الكلاب الضارية...

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved