Saturday 11th January,2003 11062العدد السبت 8 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

مجتمعنا والإنترنت.. مجتمعنا والإنترنت..
الثورة الرابعة.. الانفلات الأخلاقي للتكنولوجيا
د. علي بن شويل القرني(*)

تلعب التكنولوجيا دوراً حيوياً في تطور الشعوب والمجتمعات.. ويمكن ان نحكم على المجتمع من خلال وسائل التقنية التي يتم توظيفها داخل المجتمع والتي يتداولها الناس فيما بينهم ولخدمة مناحي الحياة المختلفة.. وهذا الموضوع هو ما نسميه ب«الحتمية التكنولوجية»، وهي مدرسة تبناها كثير من العلماء والباحثين، تتأسس على فكرة ان التكنولوجيا التي تدخل المجتمع هي التي تُشكِّل المجتمع بأنماطها وتصبغ ملامحه بآثارها.. وتترك بصماتها القوية على مختلف أوجه الحياة في ذلك المجتمع.. ويرى كثير من الباحثين ان التغييرات التي تحدث في المجتمعات الإنسانية هي محصلة الآثار التي تركتها تكنولوجيا ذلك العصر.. ومن أبرز من كتب في هذا الموضوع المفكران الكنديان هارولد إنس «الأستاذ» ومارشال ماكلوهان «التلميذ» وكلاهما تبنى نظرية الحتمية التكنولوجية.. وقد عاش هذان الرجلان وتداولت المحافل الأكاديمية فكرهما منذ الخمسينيات الميلادية وإلى بداية الثمانينيات عندما توفي ماكلوهان..
ولكن آثار ما تركاه من فكر ونظريات لاتزال باقية وتأثيرهما على الدراسات الاجتماعية والإنسانية لايزال متجسداً في فكر ونظريات كل من كتب عن المجتمع والتكنولوجيا.. وكان تركيزهما بشكل خاص على تكنولوجيا الاتصال بشكل عام.. واستعرضا تطور البشرية من منظور وسائل الاتصال من الوسائل البدائية للاتصال والتفاهم بين الشعوب.. إلى ما نسميه بداية عصر الاتصال الجماهيري عندما اخترع يوحنا جوتنبرج آلة الطباعة.. ثم تلت مخترعات الاتصالات وتكنولوجيا الإعلام باختراعات التيلكس والتلفون والسينما والراديو والتلفزيون.. الخ.. وكل مرحلة من مراحل التطورات النوعية للحياة البشرية هي نتاج لتكنولوجيا خاصة بها..
وإذا تأملنا في المجتمع السعودي خاصة، نجد فعلاً ان مجتمعنا قد مرَّ فعلاً بمراحل شبيهة بتلك التي مرَّت بها باقي المجتمعات في العالم.. فنجد ان المراحل الأساسية التي مر بها المجتمع السعودي يمكن ان تمثل أربع مراحل ذات صبغات متمايزة بينها..
المرحلة الأولى: تكنولوجيا الإعلام المطبوع.. وتجسدت هذه المرحلة في وجود عدد من الصحف والمجلات والكتب التي كانت الوسيلة الوحيدة لتداول الفكر والمعلومات بين أفراد الشعب السعودي وبين القيادة والمواطنين.. وتُمثِّل صحيفة أم القرى وما صاحبها من صحف ومجلات نموذجاً لمرحلة إعلامية مختلفة عن تلك التي سبقتها.. ومع استمرار هذه المرحلة إلى عقود طويلة وإلى هذا اليوم، إلا ان المملكة دخلت حقبة اتصال جديدة تمثلت في وسيلة إعلام جديدة مع نشأة الإذاعة السعودية.
المرحلة الثانية: مرحلة الإذاعة.. وقد دخلت الإذاعة السعودية الرسمية عام 1368هـ الموافق 1949م.. أي بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية.. وكان دخول الإذاعة إلى المجتمع السعودي من المراحل التي قفزت بالتفكير السعودي للمواطنين إلى مرحلة غير مسبوقة تماماً.. وقد كان الناس يجتمعون حول جهاز راديو يستمعون فيه إلى صوت يأتي من داخل هذا الجهاز العجيب.. وكلنا يعلم مدى الاعتراض الشعبي على مثل هذه الأجهزة والتي كان يراها البعض بأنها من عمل الشيطان.. ولكن المرحلة قد مرت.. وأصبح صوت المملكة اليوم يسمع عبر الموجات القصيرة على سبيل المثال وعبر الفضائيات الإذاعية في كل أنحاء العالم..
المرحلة الثالثة: مرحلة التلفزيون.. ويمثل تاريخ 1385هـ الموافق 1965م تاريخ انطلاق التلفزيون السعودي.. وقد كان ذلك مرحلة نوعية لم يشهد لها المجتمع نظيراً في نقل المجتمع وتطوره وتشكله بطرق مختلفة عن تلك التي ألفناها في الماضي.. وقد عاشت هذه المرحلة إلى اليوم، ولكنها تنامت خلال عقد التسعينيات الماضي عبر البث الفضائي الهائل إلى شعوب ومجتمعات العالم.. وتمثل هذه المرحلة مرحلة عبور الثقافات وانصهار المجتمعات.
المرحلة الرابعة: وهي مرحلة الانترنت.. وقد دخلت إلى المملكة في حوالي منتصف التسعينيات أي قبل سنوات فقط.. ولا نزال نعيش بداية هذه المرحلة الخطرة والنوعية في حياة مجتمعنا العربي السعودي.
إذاً يمكن اجمالا القول إن المملكة العربية السعودية مرت بأربع مراحل في تاريخ المائة عام الماضية، تمثل كل مرحلة شكلاً من أشكال تكنولوجيا الاتصال «الإعلام»، وطبعت كل مرحلة بملامح تغيير مختلفة عن تلك التي سبقتها.. ولكن المرحلة الأهم في نظري هي المرحلة الحالية التي نواجهها.. لأسباب، منها:
1 المراحل الثلاث الماضية كانت تحت حكم رسمي في تدفق الرسالة الإعلامية، فالصحافة والإذاعة والتلفزيون كلها وسائل إعلامية تقع تحت سيطرة الدولة أو نفوذها التوجيهي، ولهذا فقد راعت هذه الوسائل الثوابت والقيم والأعراف الاجتماعية في بلادنا.. أما مرحلة الإنترنت فهي تشكل إعلاماً من الجماهير وإلى الناس وبدون أي شكل من أشكال الرقابة على المحتويات أو الرسائل المتدفقة عبر صفحات الإنترنت.. أي ان كل شخص يقبع خلف جهاز كمبيوتر ويتصل بالشبكة الدولية يمكن له ان يصبح هو في ذاته وسيلة إعلام مستقلة ويصبح العالم هو الجمهور الذي قد يتلقى رسائله أياً كانت هذه الرسائل، وبغض النظر عن الانفلاتات الأخلاقية والمجتمعية والسياسية التي قد تتضمنها مثل تلك الرسائل..
2 مرحلة الإنترنت بدأت تهمش الإعلام التقليدي المتمثل في وسائل الإعلام المطبوعة والمسموعة والمرئية.. بغض النظر عن كون هذه الوسائل رسمية أو عبر شركات ومؤسسات خاصة.. وهذا التهميش تتضاعف آثاره كلما عجزت وسائل الإعلام في المجتمع ان تولد الثقة في وسائلها وتكسب الجمهور المتلقي..
3 المتابع لما يبث عن طريق الإنترنت يلاحظ انعدام أي واعز ديني أو أخلاقي فكثير من هذه الرسائل والمنتديات يمثل انفلاتاً غير مسبوق في أخلاقيات أفراد في المجتمع.. وتشكل مرحلة خطرة في علاقات الناس مع بعضهم البعض، ومع المؤسسات المجتمعية في بعض الأحيان.
4 توجد مفارقات مدهشة بين تواريخ بدايات وسائل الإعلام في العالم ودخول هذه الوسائل إلى المجتمع السعودي.. فمثلاً توجد فترة أكثر من أربعة قرون من تاريخ اختراع الطباعة «يوحنا جوتنبرج في مدينة مينز بألمانيا عام 1453م» وبين دخول أول مطبعة إلى منطقة الحجاز عام «1883م».. وتوجد فروق حوالي أربعين عاماً بين تداول الإذاعة كوسيلة إعلام جماهيرية في العالم ودخول الإذاعة إلى المملكة، وتوجد حوالي عشرين عاماً تفصل بين انتشار استخدامات التلفزيون في العالم وبين دخوله رسمياً إلى المجتمع العربي السعودي.. أما الإنترنت فقد كانت الفترة قصيرة جداً في حدود خمس سنوات بين انتشار استخدامه في العالم ودخوله رسمياً في المملكة.. أي ان المجتمع السعودي لا يستطيع ان يقاوم دخول تقنيات الاتصال والمعلومات، على الرغم من الضرر الممكن منها..
ولهذا فإننا نعتقد بأن هذه المرحلة الحالية التي بدأت تجري في دماء الشعوب، وتسري في صفحات الفكر الإنساني ستترك بصماتها على كل الشعوب والمجتمعات سلباً وايجاباً، وعلى مستويات الفرد والمؤسسات.. والسلوك والاتجاهات.. ومجتمع المملكة لا يعد استثناء من هذه الآثار التي تركها ويتركها الإنترنت على العالم والبشرية جمعاء.. ولكن ما نحتاجه اليوم قبل غد هو التوعية بسلبيات الوسيلة الإعلامية الجديدة التي التهمت كل الوسائل الأخرى، وشوشت على كل الرسائل الأخرى، وبعثرت مفاهيم أساسية في المجتمعات.. الأسرة والمؤسسة والدولة.. ولهذا فإنني اقترح تكوين لجنة مختصة ضمن أجهزة الدولة وبالتعاون مع الجامعات والمؤسسات ذات العلاقة يناط بها دراسة الآثار المترتبة على المجتمع من الإنترنت.. ووضع حملات إعلامية توعوية بتنوير الشباب بشكل خاص بأوجه الاستفادة الايجابية من استخدامات الإنترنت.. وتبصرتهم بالسلبيات التي تواجههم وتواجه أسرهم ومجتمعهم..
وكما نعلم بأن دخول أي تقنية اتصال إلى أي مجتمع كان من المفترض أساساً ان تسبقها حملة توعوية لدى مختلف الشرائح المتعاملة والتي تقع تحت تأثير هذه الوسيلة.. وذلك لتنويرهم وتبصرتهم بالسلبيات والايجابيات.. ولربما لو بدأت مثل هذه اللجنة المقترحة مشروع حملات توعوية شاملة في هذا الشأن لربما نكون قادرين عما قريب إن شاء الله في زرع وعي ديني ووطني في عقول الشباب والمتعاملين مع هذه التكنولوجيا.. وما نراه من اسفاف فاضح وتدنٍ في مستوى الرسالة التي يحملها الإنترنت يحتم علينا سرعة مواجهة هذه الظاهرة قبل استفحالها وتركها آثاراً تشق وحدة المجتمع وتخلخل قاعدة الثبات الوطني.

(*) رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
أستاذ الإعلام المساعد بجامعة الملك سعود

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved