كان العرب في جزيرتهم يتسقطون منابع الماء ومواطنه.. ويراقبون أي سحابة يلمع بريقها فيتسابقون إلى موقع هطول المطر منها فيحتفلون بنزول المطر الذي يعز عليهم في هذه الصحاري القاحلة.. لا مصدر للمياه في هذه الجزيرة إلا مياه الأمطار وما تجود به السماء عليهم بفضل من الله من هذه المياه التي يرحلون معها أينما سقطت.. وبعضهم يجمع مياهها لأيام الصيف الحارة اللاهبة.. بل إن العرب كانوا يتقاتلون على موارد المياه.. وتحصل بينهم المعارك الطاحنة بسبب خلاف على بئر ماء.. وكثيراً ما انتصر الطرف الذي ينجح في الاستيلاء على مصادر المياه.. بل ويفتخر شاعر العرب الذين ينجحون في الاستيلاء على هذا المصدر.. انظروا إلى عمرو بن كلثوم «شاعر قبيلة تغلب» وهو يفتخر بقبيلته التي تشرب الماء صافياً زلالاً خالصاً لها دون سائر القبائل.. بينما يشرب غيرهم ماء «ملوثاً» معكراً..
ونشرب إن وردنا الماء «صفواً» ويشرب غيرنا كدراً وطيناً..
هذا الماء هو أغلى سلعة لدى قبائل العرب.. هذه أقصى أماني أحدهم «أن يشرب الماء صافياً».. إنها أمنية ولا ككل الأماني.. من يشرب الماء صافياً في صحراء لاهبة.. في قيظ حار.. فقد حق له أن يفخر بذلك فكأنه حاز «منابع النفط» فقد استولى على السلعة الاستراتيجية الأولى المهمة في الحروب الاقتصادية.. وفي ذلك الوقت لم تكن توجد «وزارة للمياه».. بل كل يمتح الماء من البئر ومن سبق فهو أحق به.. ووزارة المياه».. لم توجد علي مر التاريخ في هذه الجزيرة إلا في زماننا هذا.. وقبل عدة أشهر.. فلعلها تسقينا الماء «صفواً» وألا نشرب كدراً وطيناً، فالماء هو عصب الحياة.. و هو أهم شيء في حياة كل إنسان.. وأهم ما دة غذائية في حياته.. ولهذا وجب تأمينه لكل إنسان بسعر مناسب ومعقول.. وأن يكون من مصدر صحي أمين جداً.. وأن تخضع لرقابة صارمة سواء من ناحية إنتاجه وعلاجه.. أو من ناحية سعره.. ولكن الملاحظ أن الماء أخيراً تحول إلى سلعة ومنافسة بين التجار.. كل يظهر جشعه على حساب المستهلك المسكين.. ولا أدل على ذلك من انتشار محلات تعبئة المياه «الصحية» في كل مكان.. وامتلاء البقالات بعبوات مختلفة من المياه المتعددة المسميات.. فكل يوم لها اسم يسيل لعاب المستهلك.. هل تصدقون أن الماء «أغلى من البنزين».. هذه حقيقة أصبحت مشاهدة وليس فيها أي مبالغة.. لقد أصبح استهلاك هذه المياه ضرورياً في ظل عدم وجود بديل غيرها.. كل البدائل غير مضمونة.. بل إن هذه المياه نفسها غير مضمونة فأين يذهب المستهلك.. سيقع تحت رحمة جشع تجار البلاستك وأقول تجار البلاستك.. لأنهم يتاجرون بالبلاستيك حقيقة.. وبعدها يتاجرون بصحتنا ليحصلوا في النهاية على دراهم معدودات فندفع صحتنا ثمناً لها..أعتقد أنه قد حان الأوان لفتح ملف «المياه الصحية» التي نرجو ألا تكون العكس.. فنحن في بلد يحرض على صحة الإنسان.. ونحن في بلد قاري حار تصل درجة الحرارة فيه إلى 50م في الصيف ويزيد فيه استهلاك المياه في بلد صحراوي لا يجد سكانه مصدراً للمياه إلا هذه القناني البلاستيكية «مياه الشرب» وفي بعض الأحيان فإن مياه الشبكة أكثر أماناً منها.. هذه المصانع تعبئ هذه المياه في قناني براقة عليها صور جذابة.. ونحن «يا غافل لك الله» نشرب من هذه المياه التي أتت من «المصانع» ولا «تمسها الأيدي».. ولا نعلم عن محتوياتها.. ولا أين عبئت ولا من أي مصدر جاءت هذه المياه.. كتب عليها تاريخ التعبئة.. وتاريخ الانتهاء.. هل عرفتم ماء تنتهي صلاحيته خلال سنة!!
وهذا يعطي دليلاً قاطعاً على أن الماء أصبح سلعة للمتاجرين بصحتنا.. هذه القناني والقوارير البلاستيكية بمختلف الأحجام والعبوات والحرب قائمة على حجم العبوة فمنها 6 ،0 لتر ومنها 65 ،0 لتر ومنها 1 لتر ومنها 5 ،1 لتر وأخيراً ظهرت الجوالين «2لتر، 3لترات» فما فوق ولكن هذه المياه الله أعلم كيف تمت معالجتها.. وما هو مصدرها.. كما أكدت الدراسات أن هناك أنواعاً من البكتيريا تنمو في القناني البلاستيكية أكثر من الزجاجية وذلك لأنها تتغذى على المواد الناتجة عن تحلل المواد البوليمرية «Polymer» في البلاستيك والمصنوعة من مادة ال«PVC» أو البولي فينيل كلورايد كما أثبتت الدراسات العلمية أن بعض العينات التي أخذت عشوائياً من نقاط بيع المياه المعدنية المعبأة تحتوي على أعداد كبيرة من البكتريا القابلة للنمو على شكل مستعمرات بكتيرية.
فكيف يمكن تسمية هذه المياه بالمياه «الصحية»..!! إن هذا المسمى مسمى خادع جداً للمستهلك الذي يعتقد بحسن نية أن هذه المياه هي الأفضل للصحة.. بل ربما كانت هي الأسوأ حيث إنها تعرضت إلى أعمال كيميائية وخزنت في ظروف سيئة ونقلت في ناقلات سيئة التهوية.. بل وربما تركت في الشمس حتى بدأت مادة الPVC تتحلل في الماء.. بل إننا في كثير من الأحيان نحس بطعم البلاستيك مع الماء.. في إحدى المرات وضعت في السيارة قارورة وجالون نصف ملئى بالماء وذلك في بداية فصل الصيف.. فلماعدت بعد ساعة وجدت القارورة والجالون قد التويا وانتفخا وقاربا الانفجار.. هذا في درجة حرارة عادية.. فما بالكم في قوارير وجوالين تخزن في مستودعات تصل درجة الحرارة مع عدم التهوية بها إلى ربما 55ْ أو أكثر.. وإذا تعرضت للشمس فلا تتحدث عنها..!!
من يعرف هذه المادة التي تصنع منها قناني «المياه الصحية». إنها مادة ضارة بالصحة كما عرفنا وعرف الجميع.. وهذا إذا تعرضت إلى درجات حرارة عالية.. ولكن مهلاً! أليس عندنا صحراء لاهبة تذيب الحديد في الصيف لشدة حرارتها؟ فما بالكم في شاحنة تحمل هذه القناني في صحراء لاهبة في جمارة القيظ.. وعلى الأسفلت الأسود وموضوعة في صندوق يتحول في لواهب الصيف إلى قطعة من الجحيم.. كيف تنقل المياه التي نشربها بهذه الصورة وتخزن في مستودعات لاهبة الحرارة.. هذا إذا لم توضع معرضة للشمس اللاهبة.. هناك ثلاثة أشياء لا بد منها:
أ. إيقاف تجار «البلاستيك» وليسوا تجار «المياه الصحية» عن المتاجرة بصحتنا.. وفرض رقابة صارمة على محلات بيع «المياه الصحية»ومصانع المياه من قبل وزارة الزراعة والمياه التي هي المسؤولة الأولى عن المياه في بلادنا .. وإجراء فحوصات واختبارات بكتريولوجية وكيميائية على هذه المياه والمصانع.. وكذلك لا بد من دور ملموس لوزارة التجارة لإيقاف «حرب المياه هذه».. وتغير مسمى هذه المياه من صحية إلى «مياه» فقط.. فبعض محلات بيع المياه تأخذ مياهها من «أشياب» داخل المدن ربما تكون قد اختلطت بمياه الصرف الصحي.. وهنا تكمن الخطورة.. وتضيف إليها بعض المطهرات الكيميائية مثل الكلور.. وتبيعها للمستهلكين. لكم أن تتصوروا كم يكلف البلديات تنظيف الشوارع من قناني البلاستيك الفارغة التي يتم رميها بمختلف الأحجام... «كاسات صغيرة جداً.. قوارير صغيرة.. قوارير كبيرة.. جوالين» لماذا لا يتم توجيه هذا الهدر الاقتصادي إلى خدمة المواطنين بتأمين فلاتر مياه صحية وبيعها للراغبين في تحلية مياههم.
ب. مراقبة ظروف نقل وتخزين هذه المياه.. ونوعية القرارير التي يتم تخزين المياه بها.. هل هي مناسبة صحياً أم لا.
ج. مراقبة أسعار هذه المياه التي لا شك أنها أسعار كبيرة بالمقارنة مع «البنزين» فالماء أغلى من البنزين.. إلا إذا كانت المسألة هي متاجرة ب«البلاستيك» ومتاجرة ب«PVC» فليس هناك مصدر للمستهلك إلا هذه المياه.
|