طرح الغرب الدعوة الى اعادة ترتيب الأوضاع الاقتصادية بين دول العالم وفق منظور النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وسوَّق فكرته سياسياً واعلاميا وخرج بمفهوم العولمة وسخر له قدرته التقنية الفائقة التأثير، ليخلص الى ان العالم كله أصبح قرية كونية واحدة وضعها في اطار منظمة التجارة العالمية كشكل قانوني، وتمكن من أن يخلق من ذلك المنظور الهلامي جسداً يحتضن روح الغرب وينبذ تلك الدول التي صنفت بالعالم النامي بدرجاته الثانية والثالثة أو الرابعة والخامسة. وانطلت اللعبة على هذا العالم النامي الذي آثر، طوعاً أو كرهاً، ألا يكون لاعباً مؤثراً في هذه اللعبة الدولية واكتفى بأن يكون متفرجاً يتلهى ببريق نصر صنعه الغرب وحصد جوائزه ونال به مبتغاه.
وإذا كان بريق العولمة ما زال يلمع في فضاء عالم اليوم، فهو قد يكون بريقاً خادعاً كذلك السراب الذي حسبه الظمآن ماءً فإذا به يجره الى صحراء تُمعن في قسوتها حتى يضيع التائه فيها. والضياع هو المصير الذي تؤول إليه النفوس التي تفقد حكمتها في تفعيل قدراتها فتصبح تابعة تخمد فيها جذوة العمل والابداع. وفي عالم الأرقام والاحصاءات، التي تعكس التباين الكبير بين الغرب المتقدم والآخر المتخلف من دول العالم، ما يجسد تلك الهُوَّة الهائلة التي يسعى بريق العولمة الى طمسها وتغليفها في منظور كرس تفوق الغرب وترك فتات مائدته لدول العالم النامي. أي عولمة؟ نعم.. أي عولمة؟ سؤال نترك لبعض الأرقام والاحصاءات لتجيب عليه لعلها توقظ احساس العالم النامي الذي أصيب بالعمى، ففقد الرؤية وضل الطريق. ففي هذه الأرقام والاحصاءات دلالات توجع القلب. ولعل القلوب إذا وجعت أحست، وإذا أحست تغيرت، وإذا تغيرت تمكنت من فعل شيء.
* يوجد في الدول النامية 3 ،1 مليار شخص يعيشون بأقل من دولار أمريكي واحد في اليوم، في حين أن 11% فقط من سكان الدول الصناعية الكبرى يعيشون بأقل من 4 ،11 دولاراً أمريكياً.
* يملك أغنى ثلاثة أشخاص في العالم أكثر من مجموع الناتج المحلي الاجمالي للدول الـ48 الأكثر فقراً في العالم، فيما يملك أغنى 15 شخصاً في العالم أكثر من مجموع الناتج المحلي الاجمالي لدول أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء، ويملك أغنى 32 شخصاً في العالم أكثر من مجموع الناتج المحلي الاجمالي لدول جنوب آسيا.
* يستهلك كل أمريكي 119 كيلوجراما من اللحم سنوياً، ويستهلك كل نمساوي 103 كيلوجرامات، بينما متوسط الاستهلاك الفردي من اللحم في بنجلاديش يبلغ 3 كيلوجرامات سنوياً، ويرتفع في الهند الى أربعة كيلو جرامات.
* ارتفع عدد الأفارقة الذين يعانون من سوء التغذية من 103 ملايين عام 1970م الى 215 مليوناً عام 1990م.
* يلزم ستة مليارات دولار أمريكي سنوياً لجعل التربية عالمية بمعنى شمولها لكل سكان الأرض. ويشكل هذا المبلغ نصف ما ينفق لشراء العطور سنوياً في دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية.
* تكلف تلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية لسكان العالم 13 مليار دولار أمريكي سنوياً، بينما على سبيل المقارنة، فإن أغذية الحيوانات في دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية تكلف 17 مليار دولار أمريكي سنوياً. ويصل الاستهلاك السنوي من التبغ في دول أوروبا الغربية الى 50 مليار دولار أمريكي، ويكلف استهلاك المخدرات العالم 400 مليار دولار أمريكي سنوياً، ويبلغ الانفاق العسكري العالمي 780 مليار دولار أمريكي سنوياً.
* يبلغ الانفاق العام والخاص على الصحة في الولايات المتحدة الأمريكية 2765 دولاراً أمريكياً لكل فرد سنوياً، بينما يبلغ ثلاثة دولارات فقط في فيتنام.
* يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية والسويد وسويسرا أكثر من 600 خط هاتفي لكل ألف شخص، مقابل خط واحد لكل ألف شخص في كمبوديا وتشاد.
ففي أي عالم نعيش اليوم؟ وهل يمكن أن تنجح العولمة مع هذه المفارقات؟ وهل يمكن أن تبلغ أهدافها المعلنة، على أقل تقدير، مع هذه التباينات بين الأغنياء والفقراء؟ الإجابة على هذه التساؤلات لا يملكها إلا من يكابد هذه المعاناة، وعليه أن ينفض عن كاهله غبار التخلف ويدرك أنه «ما حك جلدك مثل ظفرك».. بهذه الروح يمكن أن نكون جزءاً فاعلاً في معادلة العولمة، نفيد ونستفيد. الرفض السلبي للعولمة هو ما يريده الغرب. وما هكذا تكون مواجهة العولمة، إذ لا يفلُّ الحديد إلاَّ الحديد.
رئيس دار الدراسات الاقتصادية - الرياض
|