Friday 10th January,2003 11061العدد الجمعة 7 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

شهادات شهادات
صفحات مجتزأة من سيرة لم تكتمل
عبدالله السمطي

صحبتك وأنت ترتدي الجلباب متوجها إلى الكُتّاب في المسجد المواجه لبيتكم الذي استأجره والدك في بدايات السبعينيات الميلادية من القرن العشرين في أحد أحياء القاهرة الشعبية التي كانت منشغلة بمتابعة معركة الحسم، كنت تتسمع لأغاني ما قبل أكتوبر 73 وما بعده للنصر مذاق آخر. لم تكن تشعر بالغربة أنت القادم وأسرتك من أقاصي الريف.. من صعيد مصر الجوّاني.
كنت تصغى لأطراف كلام بين والديك، كان الأب يقول: نريد آن نعلمه لكي يكتب لنا الخطابات التي نرسلها للعائلة في الصعيد نريد أيضاً أن ندخله الأزهر الشريف.
كتابة خطابات؟ وأزهر شريف؟ أين وكيف؟
صحبتك أنت ابن السادسة أو السابعة تتوجه بجلبابك ذات صباح إلى الكتاب. تدخله. تجد التلاميذ الصغار جالسين على البساط في أحد أركان المسجد، الشيخ جالس على كرسي خشبي وبيده «جريدة نخيل» تهاب الموقف، هذه العصا الطويلة ماذا يفعل بها؟
أجدك تتذكر الحقول في الصعيد وعصاك الطويلة التي كنت تهش بها على الغنم التي تمتلكها عائلتك؟
لا تتهيب هكذا، أدخل يا عبدالله، ينادي عليك الشيخ علي الذي يعرف والدك، تدخل تجلس مع التلامذة الصغار، تفتح كراستك التي تحوي 28 ورقة مسطرة.. وأنت لا تعرف الكتابة أو القراءة لماذا تفتحها؟
2- في مكتبة الجامعة، وأنت هارب من ضجيج المحاضرات، ومن لغو مدرسي الأدب بين يديك ديوان نزار قباني تطالعه بشكل مركز وبإعجاب شديد بمخيلة هذا الشاعر وبساطته.
كنت قرأت أعمال شوقي وأبي القاسم الشابي، وجبران، وبشارة الخوري، ومحمود حسن إسماعيل، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي غير مرة وخلدت في الذاكرة خلاصة هؤلاء الشعراء الكبار، ومن جايلهم من شعراء آخرين حيث كنت تقرأ كل ما تقع عليه عيناك من شعر.
هكذا كان شوقي يسقيك ماء الحنين من أندلسياته، وخياله الكلاسيكي الرحب في (مصرع كيلوباترا) وروعته في (يا جارة الوادي)، كما حملك جبران إلى غناء نايه، والشابي إلى (هيكل الحب)، وبشارة إلى غنائياته الراقصة، وإسماعيل إلى أغاني كوخه، وعلي محمود طه إلى «جندوله» وناجي إلى اطلاله، وعوالمه الرومانتيكية التي يحبط فيها العاشق دائماً و
(لا تقل لي ذاك نجم قد خبا
يا فؤادي كل شيء ذهبا)
نزار قباني أحدث لك صدمة كبيرة بهذا الشعر الرومانتيكي البرناسي الرمزي الحديث، نزار اختصر إلياس أبو شبكة، واختزل الخوري، وكثف كامل الشناوي وامتص شوقي والمدرسة الرومانتيكية بأكملها. تأثرت به طويلاً وحفظت جل شعره، وناء معجمك الشعري بتعبيراته إلى أن غزاك محمود درويش، وأدونيس، وسعدي يوسف، ومطر، والمقالح، والبياتي، وعبدالصبور.
قرأت الشعر الحديث بنهم، ثم اختطفك محمد الماغوط إلى عالم قصيدة النثر فقرأت معظم نتاجاته: أنسي الحاج، أبوشقرا، توفيق صايغ، سركون بولص، وقاسم حداد، وعباس بيضون، وعشرات، بل ومئات الشعراء في هذه القصيدة، هذه القراءات غيرت كثيراً من مفاهيمك الجمالية عن الشعر، ودخلت إلى فضاء آخر.
3- كنتَ بدأت القراءة الفعلية في الصف السادس من المرحلة الابتدائية، كانت قصة طويلة عن (نصر أكتوبر 1973م) تروي عن الرقيب (عرفان) وزوجته (جليلة). ثم بدأت تشتري من مصروفك البسيط بعض الكتب الأدبية وأنت في المرحلة المتوسط، تضحي بمتعة الإنفاق لشراء ساندويتش أو قطعة حلوى أو كوب عصير من أجل الكتاب.
أول ما اشتريت مجموعة فتحي أبو الفضل (الجحيم) ثم أعداد مجلة (الدوحة) ثم ساقتك قدماك إلى (سور الأزبكية) و(سوق الخميس) حيث الكتب المستعملة، تشترى وتقرأ، من (لسان العرب) إلى (الأغاني) للأصفهاني، وديوان (مجنون ليلي) و(عنترة) و(عمر بن أبي ربيعة) و(فصوص الحكم) و(أعمال شوقي وطه حسين والعقاد) ومجلة (منبر الإسلام) تشتري طبعات رديئة من روايات وقصص وأشعار، من (الحماسة) إلى (ألف ليلة وليلة) ربما تعلمك في الكتّاب يقودك أكثر إلى شراء كتب التفسير والكتب الدينية.
تتذكر الشيخ علي، وجلوسك أمامه على علبة حديدية صدئة تتلو أمامه ما تحفظه من القرآن الكريم، ويضربك على ساقيك بالعصا الطويلة (جريدة النخل) لتميز الصحيح من الخطأ، تتذكر عذابك الأول في الكتابة، حين أعطاك الشيخ واجباً تمثل في كتابة سورة (الفاتحة) في كراستك، واستعنت بوالدتك في الكتابة، وكان عقاب الشيخ لك كبيراً بعشر ضربات على اليدين.
4- في العام 1997م يصدر ديوانك الشعري الأول (فضاء المراثي). لم تكن تحلم أبداً بذلك أن يوضع اسمك في مصاف الشعراء. هكذا دخلت القسم الذي كنت تحلم به: قسم اللغة العربية وآدابها، كما كنت تتمثل صلاح عبدالصبور في ذلك، وتتخرج في الجامعة، وتقرأ وتكتب عن الشعر.
كنت قد نشرت أول أبيات شعرية لك في مجلة (القافلة الجديدة) وفي (الهلال) وفي مجلة الجامعة (إشراقة) وتذاع قصائدك بشكل يومي في إذاعة الشباب والرياضة ثم في البرنامج العام في فترة الثمانينات الميلادية. وتنشر أول لك بمجلة (إبداع) في العام 1986م.
ثم يتوالى النشر بعد ذلك في مختلف المجلات الأدبية في مصر والعالم العربي في مجلات لم تكن تحلم بها. ومع كبار الكتاب والأدباء والشعراء.
5- اليوم تجلس على أنقاض أحلامك وأدراقك وأحبارك، يمرُّ حيالك شريط الذكرى وقطار التخيل الراكض. التأمل عنوان وقتي دائب، والتساؤل الكبير عما حدث. هل أديت فعلاً فروض الإبداع؟ هل تعمقت أكثر؟ هل أخذت حقك الأدبي بما يتواءم مع الأوقات الدهرية التي أمضيتها في صحبة الليل قارئاً وساهراً ومتوجعاً؟
تنهمك تارة أخرى في قراءة الشعر العربي القديم والمعاصر، هذه القراءة التي أخذتك عن قراءة فنون الأدب الأخرى التي بدأت مشاريع قراءتها لديك منذ أواخر الثمانينيات الميلادية بدءاً من المسرحيات الإغريقية إلى الروايات العالمية ونظريات النقد الحديث.
وها أنت تعود اليوم إلى قراءاتك، تفني زهرات عمرك في القراءة والكتابة وصحبة الحبر والأوراق البيضاء التي تصبح سوداء لا من أثر الحبر فحسب، بل من أثر هذه المكابدة اليومية، والألم التخيلي، والشوق إلى المطلق الذي يمارس بلا انقطاع منذ أكثر من عشرين عاماً تضم ملايين الثواني التي تتحرق إلى المعرفة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved