Friday 10th January,2003 11061العدد الجمعة 7 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الترف الفكري الترف الفكري
د/ محمد بن عبدالرحمن البشر

في رحلة عملية إلى إحدى المدن الصينية بصحبة جمع من الإخوة السفراء العرب، أتيح لنا أن نجلس معاً لتجاذب أطراف الحديث حول هموم أمتنا العربية، وكان الحديث شيقاً، لأن العربي في الغالب بطبعه يأنس أن ينظر وينتقد ويخطط، ونأمل من الكثير أن يعمل أيضاً، وإذا عمل أن يتقن بدلاً من أن يقتصر العمل الجاد على نسبة محدودة «في خضم حديثنا الشيق استهوتني جملة طرحها أحد الإخوة الزملاء، وهي «الترف الفكري» فجعلتها عنواناً لمقالتي هذه».
العالم يشهد تغيرات سياسية واقتصادية وثقافية، ولا شك أنه سيتلوها تغير اجتماعي أيضاً، كل هذا التغير له أدواته وبرامجه وأهدافه، وبعض من العالم العربي ما زال محتاجاً إلى أن يعرف كيف يعمل، ويرى بعض من أبنائه أنه لو عمل فلن يحسن، وهذا يجانب الحقيقة.
المثقف العربي في الغالب يدرك المعطيات التي أمامه والأحداث الجسام التي تحدث في كل ساعة من ساعات عمره، ويحلل وينظِّر ويرفع الصوت تارةً ويخفته تارةً أخرى حتى لا يكاد يسمعه سواه، ولتوقيت الرفع والخفض، والإقدام والإحجام، حسابات خاصة قد تكون في الغالب متعلقة بمستلزمات ذاتية آنية.
إن بعضاً من المثقفين العرب ملأوا الساحات الإعلامية بالتنظيرات المثالية والرؤى الخلابة، والمناشدات البراقة، والشعارات الرنانة، وإن كان ذلك مفيداً، فإنه ولا شك لن يكون كافياً، كما أنه لن يكون احدى اللبنات في طريق الإصلاح المنشود، غير أنه إثراء فكرياً ومتعة جمالية، كما هي قصائد ابن زيدون، وعمر بن أبي ربيعة، وطرفة بن العبد، وهو إضافة لبديع الكلام، وجمال السبك، وحسن العبارة، وهذا هو جزء من «الترف الفكري».
العربي في الغالب مغرم بالجمال في المرأة، والطبيعة، والبناء، والمركبة، شأنه شأن غيره من أبناء البشر، لكنه هام بذلك الجمال وأسهب في إطلاق سراح خياله للاستمتاع فيه وبه، وقضى جُلَّ وقته في التفكر فيه، كما أنه حرص على اقتنائه، ولم يُحسن البعض استعماله.
وفي الوقت الحاضر، أبى البعض إلا أن يضيف إلى ذلك الجمال، ومن ثم الاستمتاع، صنفاً آخر من صنوف المتعة، حق لنا أن تسميه «الترف الفكري» والذي بدأ يحلق في السماء العربية، بدرجات متفاوتة، مستمداً قوته مما يطرح من أفكار جُلُّها هشة المنبت جميلة المظهر.
والأمر الأدهى، والمآل الأمرّ، أن هذا النوع من «الترف الفكري» سيكون على حساب «الفكر العملي» الذي نكون أشد ما نحتاجه اليوم قبل الغد.
لقد بزغ لون من «الترف الفكري» الذي يملأ المنتديات، والمؤتمرات، والندوات، والاجتماعات، ومثلها ما شئت من المجالس والديوانيات، ففي بعض المؤتمرات يخلص المؤتمرون إلى توصيات رائعة السبك، مثالية الطرح، بعيد عن أرض الواقع، وعندما يكون التطبيق العملي جاهزاً، فإذا به يصطدم بواقع الحال الذي معه تكون التوصيات مجرد مجموعة من الورق المصقول الذي انتهى مفعوله.
لو أن كل مؤتمر عقد انتهى إلى توصية واحدة فقط قابلة للتطبيق، لكنا قد وصلنا إلى عدد من النتائج العملية الفعالة، التي لا بد أنها ستجر معها الكثير من المعطيات التي تتطلب المزيد من التوصيات العملية وهكذا.
ولقدا ستهوتني تلك الخطوة العملية الرائعة بتوحيد التعرفة الجمركية لدول الخليج، وهي خطوة عملية تم تطبيقها فعلياً بدءاً من عام 2003م، وأنا أعلم مقدار التضحيات المالية التي دفعتها كل دولة من دول الخليج لتحقيق هذا المأرب النبيل.
إن «الترف الفكري» ظاهرة شديدة الخطورة، لأن حامل لوائه بعض مثقفي الأمة، ولأن منظره براق يستهوي الألباب، لكنه لا يحمل المادة الفعالة للعلاج، فيبقى المريض بدائه، مع اعتقاده أن العلاج قد تم تناوله.
جلُّنا يعرف الداء والدواء، لكنه لا يريد أن يتناوله، لكونه مرّ المذاق، ولو روض نفسه وأقنعها على أن ذلك المر حلو ولا سيما إذا كانت النتائج محمودة، لعاش بقية عمره مستبعداً الدواء، ولكن هيهات.لم نعد نحتاج إلى منظِّرين ومنتقدين، بل إلى من يعمل بعمله ويطبق ذلك على نفسه، وبه فقط يصلح المجتمع بأسره.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved