اننا جميعا نؤيد السلام، على الرغم من ان السلام يبدو العام الحالي بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى، البيت الأبيض في الولايات المتحدة الأمريكية مصر على الحرب ضد العراق والمواطنون في العشرات من الأماكن على امتداد الكرة الأرضية يبدؤون العام الجديد وهم متورطون في اعتداءات مميتة.
والإحصاءات الخاصة بأرقام الحروب التي يعيشها العالم وأرقام القتلى وأرقام المشردين تحكي لنا حقيقة القصة المروعة، ومع تزايد الخوف وتحوله إلى كراهية والخسارة إلى حالة ميئوس منها في ملايين القلوب فإننا نتجه خلال العام الجديد إلى مستقبل من العنف المستمر.
والحقيقة أنه لم يكن من المفترض أن يصل العالم إلى هذه الحالة، فمنذ عشر سنوات اعتقدنا أننا بدأنا نقلل من وتيرة الحروب التي شهدها القرن العشرون الدموي لندخل مرحلة جديدة من السلام، نهاية الحرب الباردة خلصت العالم من شبكة صراعات القوى العظمى، وثورة التكنولوجيا وثورة المعلومات والعولمة الاقتصادية كل هذه العوامل جعلت الجميع يعتقد أن ثقافة السلام يمكن أن تحل محل ثقافة الحروب، وقد كنا على وشك التحول إلى الديموقراطية في مختلف أنحاء العالم واعتقدنا أننا قد وصلنا إلى مرحلة من الرخاء بحيث لا يمكن لنا أن نتقاتل أو أننا أصبحنا على اتصال متبادل بحيث يمكن أن نفعل اي شيء، ولكن الواقع أن السلام لم يتحقق أبدا واستمرت مبيعات السلاح مربحة جدا وانهارت استراتيجية السلام الكبرى للحضارة البشرية وأصبحت التغييرات التي احتفلنا بها هي نفسها التي جعلت من السلام سرابا.
وعودة إلى أيام البشرية الأولى عندما كان الإنسان في حاجة إلى حماية نفسه على الأقل من الناس الآخرين أو من كل ما يحيط به، ولكن في العصور الحديثة أصبح المقاتلون مثلي جنوداً محترفين يحرسون حدود العائلة والتي تحولت حاليا إلى دولة، وسواء كان في العصور القديمة أو الحديثة فإن الفكرة الأساسية للأمن كانت تتمثل في وجود مقاتلين متخصصين يتولون الدفاع عن الوطن ومن يعيش فيه، فالسلام كان نتيجة للحرب أو للاستعداد للحرب، أي أن تحقيق السلام كان مهمة المحاربين، وعلى مدى آلاف السنوات ظلت الحكمة الأثيرة تقول إنه لكي تحقق السلام عليك الاستعداد للحرب.
ولكن هذا الدفاع الوقائي لم يعد صالحاً خلال العصر الحالي مهما تحقق من تقدم تكنولوجي أو تفوق عسكري ومهما كانت قوة نيران الجيوش العصرية فإنها لن تستطيع مثلا الحماية من هجوم إلكتروني يستخدام فيروسات الحاسبات التي تهاجم شبكات الحسابات الإلكترونية ، كما لن تستطيع حمايتنا من الفيروسات الحية التي يمكن أن تنتشر عبر الهواء ولا من القنابل التي يتم تهريبها إلى داخل مدننا، إذن ففي هذه الأيام أصبحنا جميعا على خط المواجهة الأول، ويبدو أن الأمان الذي كان يوفره لك كونك غير محارب أو «مدني» لم يعد موجودا.
ومن بين التهديدات الجديدة للسلام هؤلاء الإرهابيون المزودون بأسلحة نووية وهم مجموعات صغيرة أمكنها إثارة الرعب في قلوب الكثيرين، ولكن هؤلاء الإرهابيين مع الخوف الذي يشعرون به يصبح خطرهم قليلاً جدا مقارنة بما يمثله هؤلاء المهيجون والديماجوجيون حول العالم من الذين يحاولون وضع مجموعة من البشر في مواجهة مجموعة أخرى أو من القادة المتعطشين للسلطة مثل سفاح الصرب سلوبودان ميليسوفيتش أو حكام رواندا عام 1993، فهؤلاء من خلال إثارة النعرة العنصرية استطاعوا قتل آلاف البشر وتدمير مساحات ما يفوق قدرة الجيوش المحترفة على تحقيقه.
وإذا أردت أن ترسم خريطة لأكثر صراعات العام الجديد دموية حاول أن ترسم خريطة لأماكن وجود الديماجوجيين حول العالم، إذا أردت أن تعرف مدى التهديد الذي يهدد مجتمعك حاول أن تعرف إلى أي مدى حلت السياسات التي تقوم على أساس البحث أننا في مواجهة الآخرين محل سياسات مناطق الاتفاق أو المصالح المشتركة مع الآخرين.
فكيف يمكن أن نعود مرة أخرى إلى مسار السلام؟، نقطة البداية في هذا الاتجاه هو أن ندرك أن إقامة السلام الآن هي مهمة المجتمعات وليست مهمة الجيوش وبخاصة ليست مهمة الجيش الأمريكي وحده، والسلام هو ما يحدث بعد الحرب ولكن السلام هو الحرب، فالسلام هو ما يحدث عندما ينجح أي مجتمع يشعر مواطنوه بأنهم معرضون للخطر من الداخل في امتصاص وتجاوز هجمات الخوف والإنقسام.
إذن فماذا تركنا للقوات المسلحة؟ كما قال أحد أصدقائي القدامى من العسكريين فإن الغرض من الجيوش هو جعل العالم أكثر أمنا لقوات الشرطة، أي تقليص التهديدات الخارجية حتى تركز الشرطة في أي مجتمع على مواجهة الأخطار الداخلية، والحقيقة أن ارتكاب خطيئة الاعتقاد بأن جيوشنا المحترفة مهما كانت درجة مهاراتها وتخصصها يمكنها أن توفر لنا بمفردها السلام من خلال قوتها النيرانية سوف يؤدي إلى استمرار تدهور حضارتنا الإنسانية نحو دوامة العنف البشري.
والآن ونحن نخطو في عام جديد دعونا نضم كل تطلعاتنا نحو السلام في حملة محددة لتحقيق هذا السلام سواء كان هذا السلام في المجتمع الذي نعيش فيه أو يمتد ليصل إلى المجتمعات الأخرى على امتداد الخريطة، فالسلام أصبح الأن وبصورة أساسية مهمة بناة السلام وليس مهمة المحاربين، وهنا يجب أن تكون الحكمة التي تقود خطانا هي «إذا أردت السلام يجب العمل من أجل السلام».
(*) مخطط إستراتيجي سابق في وزارة الدفاع الأمريكية وداعية سلام حالياً خدمة كريستيان ساينس مونيتور - خاص بـ «الجزيرة»
|