Thursday 9th January,2003 11060العدد الخميس 6 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

خمسة شعراء من الجنوب (2-1) خمسة شعراء من الجنوب (2-1)
خواص التركيب الجمالي في نصوص الزمزمي وكناني وعبدالحق والصلهبي
الدواوين الخمسة تعيد إنتاج المعهود الشعري بعلاقاته وصوره وأخيلته
عبدالله السّمطي

تتوهج إبداعية التركيب الجمالي للنص الشعري من خلال عمل الشاعر مع اللغة، اللغة بكل ما تكتنزه من فضاء دلالي، ومعجمي، وتوصيلي، واقتناص أمهر الأساليب وأعزها في تكوين نسق نصي يبرز الشاعر عبره تجربته في استقراء الذات أو الواقع، وتحويل هذا المعطى الكامن في مخيَّلته إلى شكل متحرك له دلالته الفنية والمعنوية وأبعاده التصويرية الثّرة.
ولما كان التركيب الجمالي للنص الشعري عبارة عن جملة من الانحرافات مع اللغة بوصفها نظاما - بحسب دي سوسير - أولاً.
ومع الأفق النثري للعبارة ثانيا، ومع اللغة الشعرية، بمفهوم فاليري - المعهودة ثالثاً، ومع اللغة الشعرية التي يطرحها السياق الشعري الراهن رابعا.
فإن مع هذه الانحرافات ينبثق أسلوب قشيب طريف يتميز النص فيه بخواصه، ويتميز الشاعر في الوقت ذاته بتجلية هذه الخواص وتعميق طبقاتها لمعاينة والخفية معاً.
وتعنى هذه الدراسة ببيان بعض هذه الخواص وأبدهما بنصوص خمسة من شعراء الجنوب في منطقتي عسير وجازان، صدرت أعمالهم الشعرية الأولى في العامين الماضيين.. والشعراء هم: عبدالله محمد الزمزمي، وزايد محمد كناني، ومريع سوادي، وأيمن عبدالحق، وحسن الصلهبي وهؤلاء الشعراء ينتسبون زمنياً للأجيال الشعرية الجديدة بالمملكة، مما يحفز الأسئلة حول ماهية كتاباتهم الشعرية ونوعية مذاهبها وغاياتها.
كينونة المعهود
قارة هي كينونة المعهود الشعري بنسقه التقليدي وثاوية في مكامن معظم الشعراء الجدد بالمملكة، كأنما هذه الكينونة المعهودة نوع من التواصل مع الموروث الشعري العربي، ونمط من التقدير الجمالي للشكل العمودي، وأيضا مظهر من مظاهر الحصول على الشرعية القولية للشعر التي ما تزال ترى النص من أوجهه الإيقاعية خاصة «الوزن والقافية»، والتعبيرية التي تتمثل في شفاهية التواصل عبر التطريب والسماع، مع ذلك لا تثريب على الشاعر ان يتبطن فضاء هذه الكينونة الموروثة المعهودة، شريطة أن يولد من هذا الفضاء عوالمه الخاصة، وأن يلج الى كيمياء البيت الشعري، ويجرب في هذا الشكل القسري الجميل علاقات جديدة، ويضع كافة امكاناته وطاقاته تحت تصرف العدد المنتظم من التفعيلات.. إنها عملية ممتعة وشاقة أن يعيد الشاعر نسج ما تم نسجه، وأن يسلك الدروب نفسها، ولكن سيبقى تميزه هنا هو أن «يعفي» على الأثر، لا أن يقتفيه، ويجعل حافز تجربته وأدائه الفني يقع على الحوافر الخالية نفسها، فعلى الشاعر أن يقدم منظومة أدائية تركيبية طريفة داخل هذا الشكل المتواتر، وان يصنع العلاقات الدلالية التي يتميز بها النص، لا أن يقدم شكلاً قانونياً فحسب.
فالشعرية - فيما يرى كمال أبوديب - لا تتحدد على أساس الظاهرة المفردة كالوزن أو القافية أو الايقاع الداخلي أو الصورة أو الرؤيا أو الانفعال أو الموقف الفكري أو العقائدي.. إلخ، إذ إن أيّا من هذه العناصر في وجوده النظري المجرد عاجز عن منح اللغة طبيعة أخرى، ولا يؤدي مثل هذا الدور إلا حين يندرج ضمن شبكة من العلاقات المتشكلة في بنية كلية.
والبنية الكلية هي وحدها القادرة على امتلاك طبيعة متميزة بإزاء بنية أخرى مغايرة لها.. «كمال أبوديب؛ في الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت. ط1 - 1987م ص13».
شبكة العلاقات هذه التي يدل عليها أبوديب، هي صورة الطاقة الجمالية التي يزكو بها الشاعر مجالات نصه، كلما كانت العلاقات ماهرة، ونضاخة بالدلالات كلما كانت لها القدرة على منحنا خصوصية الشاعر، وجلاء موهبته.
ويعنّ لنا الآن أن نقف قليلاً - وبشكل عرمٍ مكثف - مع أعمال الشعراء الخمسة، لبيان خواص تركيباتهم الجمالية، وماهيتها.
هذا أنا: عبدالله الزمزمي
يسجل الشاعر عبدالله محمد الزمزمي اعترافه الشعري الذي يتدثر بدالة «الحزن» في مواجهة درامية العالم، فبإقرار غنائي ساطع يقول في البيت الأخير من آخر قصيدة يضمها ديوانه:«هذا أنا»
* نادي أبها الأدبي/ط1/1421هـ * يقول:
أنا لولا الحزن لم أكتب ولم
تنهل الآذانُ من عذبِ قصيدي
فالزمزمي يقر بفضل «الحزن» في الكتابة، وفي إنتاجه القصائد العذبة. الحزنُ صورة الشاعر الذي يسمي ديوانه «هذا أنا»، مع رسم صورة قلب ينزف منه الدمُ على الغلاف الأمامي للديوان. ويربط الشاعر بين «الآلام» وبين سر وجوده.
ويبدو أن هذا «الحزن» هو الخيط الدلالي الذي يصل بين ذات الشاعر وبين نصوصه، خاصة إذا علمنا أن الزمزمي قد أصدر ديوانه الأول معنونا إياه ب«مواجع قلب».. وفي ديوانه الثاني هذا فإن الشاعر يعبر في اطار هذا الحقل الدلالي الرحب، فتتداعى عنده الدوال الأسيانة الشفيفة كاعتداءات الأسى، والموجعات، وثوب الحزن، والجراح والأنين:
تأمل بواعث شعري تجدْ
حنينا. أنينا. صدى موهنا
ويصل الحزن ذروته حين تندمج آلامه مع آلام غيره، وتتحد بالموت حين يقول في نصه «آلام ص17»:
من همومي أحسُّ آلامَ غيري
أنا حي في كل حينٍ أموتُ
إن الزمزمي - وفق مجاله الحزين هذا - يعبر أيضا عن الفقد والضياع، وقسوة الزمان، فيما يعبر أيضا عن «الحب» كنوع من الخلاص أو التطهير من الألم، وهو حب أيضا مجروح وكليم خاصة حين ينتقل من الذات «الداخل» الى الموضوع «الوطن» الذي يشعر واقعه العربي بالحزن والأسى أيضا، حيث يقرر الشاعر عن أمته:
هيكلاً أصبحت وسالف ذكري
وسؤالا في صفحة النسيانِ
* «ص18»
إن الزمزمي يعبر بشكل جلي عن حالته، وهو لا يدفع بالتجربة بعيداً، ولا يقدمها في نسق دلالي رمزي أو إحالي، بل يقدمها بشكل تقريري، تصويري، وصفي حيث يستثمر طاقات الدوال بوجهها الأوّلي، في علاقات تركيبية تبدو معهودة، ومأنوسة، فثمة حضور طاغ للأنا، وللتقرير:
عندي أنا الشعرُ دوحٌ لا ظلال له
* «ص89»
هذا الحضور جعل الأفق العباري النحوي منوطاً بتحديدات اسمية «المفردات الخبرية» وبمعطوفات لا تتراكب أو تتقدم وتتأخر فيها الجمل الشعرية داخل البيت الشعري إلا بشكل طفيف لا يعطي كيمياء البيت ومعادلاته بشكل فعال تبقى العبارة التطريبية الشجية هي هم الزمزمي الذي يتأثر أحيانا بالعبارات النزارية، وبطريقة أدائها كما في نصوص : «وقفة أيام قبر خالد بن الوليد، وحكاية الصيف، وانه موطني» مثلا: لكن ما ينقي تجربة الزمزمي في هذا الديوان هو حرصه على انفتاح البعد المضموني لحالته «الحزن» على كل المضامين الأخرى، ويبقى هذا الحزن مثار أسئلة بغير جواب كما يقرر هو:
عذرا فقاموسي جراحٌ ادمعٌ
حزنٌ، وأسئلة بغير جواب
فالحزن يغمر معظم دلالات النصوص العشرين التي يضمها الديوان. وهو يعبر - فيما يعبر - عن وحدة مضمونية ساطعة لدى الشاعر.
زايد كناني وتقاسيمه
زايد محمد كناني الشعر سيده، ففي نصه الأول بديوانه: «تقاسيم زامر الحي» «نادي أبها الادبي، ط1 - 1422هـ/2001م» يقول:
يسألني الناس: لماذا جفوت
الشعر، ام كان هو المبتدي
فقلت: لا أدري ومالي يدٌ
فيما جرى، لكن سلوا سيدي
وحين نسأل سيده الشعر، فإنه ينبئنا ان ديوان كناني يضم 26 نصا تتكىء على مراودة الشكل التقليدي لا لابتكاره من جديد، بل باستنساخ تعبيراته وصوره وطريقته في الغزل والرثاء والكتابة المشبعة حد الامتلاء عن الوطن، لا في وجوه الناس، او في أطناب الامكنة وأحراشها، بل عن الوطن في صورته «المتسامية».
لذا فإن الهم الشعري لدى كناني ليس هما مضمونيا او جماليا تجريبيا مغامرا، بل هو هم متضامن، ومحتف، غير قلق وغير متسائل.
فنصوص مثل: «وهج الجلال، حفلة على اهداب السماء، ابها الحب نصوص انشائية بالدرجة الأولى بلى إن الشاعر يحتفي بوطنه، لكن ليس بهذه الصورة الكرنفالية المتكررة بل بالتساؤل المبدع، وقنص المستور بشكل تصويري متميز، لا بهذا الشكل الذي يريح ويستريح.
ان الحياة بلا يقين، رحلة من غير قصد «ص 79».
كناني يقدم اشكالا عمودية متنوعة، ويحافظ على بنية النصوص العمودية «المصرعة» و«المرصعة» بقواف متحركة الروي وممتدة، كما يحافظ على وجود نصوص المناسبات فهو يمدح، ويرثي، ويصف، ويهجو كما في نص: «هيت لك»حيث يهجو «المتبرجات» ففي أبيات مثل:
وطني أيا روحي ويا جسدي
انَّا رحلت فأنت في خلدي
* «ص15»
ضاق الفؤاد بالنوى والبعد
وأثخنت جراحه بالصد
* «ص 37»
ورمى سويدائي بسهم موجع
فجنى على قلبي وادمى موضعه
* «ص 69»
نجد ان البنية التركيبية للبيت الشعري لا تنهض بشفرات جمالية متميزة، جديدة بل تكرر ما كان قد مله الشاعر القديم ذاته: النوى والبعد، والصد.. الخ.
ثم ما دلالة «السهم الموجع اليوم هل هناك وجود للسهم الا في المسابقات الرياضية؟
إن الأفق الصحراوي، وحالات الكر والفر، والحروب دفعت الشاعر العربي القديم الى تحويل «معجم الحرب» الى «معجم الحب» فتكررت بشكل استعاري مفردات الحرب في مجال الحب، ورأينا في شعريتنا القديمة: السهام الجارحة للعيون التي تقتل بلا سيوف، وتجرح، وتسبي، وتعتقل، وتميت، وسرت هذه الدوال الى توصيف المرأة واستمر هذا التوصيف في الشعر العمودي الى اليوم فمتى يتحدث الشاعر عن عالمه بشكل صادق فنيا؟
إن كناني الذي يهجو «المتبرجات» في نص : «هيت لك» لا يرى غضاضة في توصيف وجه المحبوبة، فهو يرى الوجه، ويتفنن في وصفه كما في نص : «القلب الجريح» أليس في هذا نوع من التناقض الدلالي؟
لا تنهض تجربة كناني بأداء شعري متجاوز، انه يقدم فحسب قرابين الاعتراف الشعري به: قصائد موزونة مقفاة لا أكثر ولا اقل.
وشايات سوادي القروية
يضم ديوان: «وشايات قروية» للشاعر مريع سوادي «نادي ابها الادبي - ط1 - 1422هـ - 2002م «18» نصا شعريا من بينها نصان عموديان، اما الستة عشر نصا الباقية فهي من الشكل التفعيلي.
الشاعر يؤثر - إذن - الكتابة عبر الشكل الذي يعبر عن الواقع الراهن من جهة، وعن الراهن الشعري من جهة أخرى.
تتحدث نصوص مريع سوادي بلغة شعرية ذاتية، انها لا تنشىء عوالمها الدلالية بشكل تزييني خارجي، بل تقترب اكثر مما يعبر عن النفس حقيقة، وبما يعبر عن الفضاء الزمكاني الذي يعايشه الشاعر. هنا فان سوادي هو الأقرب الى معايشة واقعه من الشاعرين السالفين، فجاءت نصوصه عنوانا لذاته الشاعرة، هذا بغض الطرف عن مستويات النصوص وقيمها الفنية التي تحتاج من الشاعر ان ينأى عن نصوص الإخوانيات، وكذلك التداعي اللفظي.
سوادي في بدء الديوان يغني للشعر كما النورس خارج روحه، ويقامر بالكون «وما يأتي يشعلني نحو غدي».
وتمتثل بنية النصوص الشعرية لدى سوادي الى آليات الجمل الشعرية القصيرة المكثفة وتجلت فاعلية هذه الآليات في القصائد القصيرة «الفلاشية» التي احتواها الديوان، فهي تتكىء على كتابة الحذف، وعلى المفارقة، وصنع الدلالة من أقصر طريق تعبيري يقول في نص بعنوان : «نهاية»: نصب على مرمى بصره كومة أحلام
وصل الى السفح ونام
أفاق فإذا الطين يغطيه
حاول أن ينفخ في رئته
فإذا الكيس مليء بالأوهام.
شعرية سوادي تتنامى في الاطارين الغنائي والدرامي للقصيدة الحديثة ونصوصه «مسارب باقية، وسفر الروح، وغيمتي، وغرق الاسفار، والوطن، ووشايات قروية» حافلة بالدلالات التي تجعل من الشاعر يعرف دربه جيدا، وتدفعه لابتكار مفردته الخاصة.
عبد الحق وحمى الأحلام:
يتقاسم الشكلان: العمودي والتفعيلي نصوص ديوان «حمى الأحلام» للشاعر أيمن عبد الحق نادي جازان الادبي، ط1، 1422هـ - 2001م»، وتبلغ نصوص الديوان 20 نصا منها 11 نصا تفصيليا و9 نصوص عمودية.. مع ذلك لا يتوفر في النصوص الطابع التجريبي سواء مع بنية ونسق البيت الشعري، في النصوص العمودية، او مع السطر الشعري وكيفية تواتره وتراكبه في النصوص التفعيلية.
عبد الحق يقدم نصوصا متماسكة من الوجهة البنائية، يلعب فيها الايقاع الصادح الدور الاكبر في «تصخيب» الضجيج الدلالي للنصوص خاصة مع هذه الدوال المتقاربة في الصياغة الشعرية.
وأبقى وحيداً، كأني ابتدأت كأني انتهيت، وتبقين في النفس طعم الطريق، وصمت الطريق «ص11».
وعلى رغم من تقريرية بعض العبارات الشعرية خاصة في «ذبول» والنصوص العمودية الا ان عبد الحق يؤطر بعض نصوصه بدرامية لافتة، كالحوار بين هو وهي في نص «مفارقات» او صنع المفارقة الشعرية كما في نص: «دقائق الصهيل العابرين» ومنه:
إن سألتم عن همومي فيسيره
احضروا خفقة رمل
في أوانينا العتيقة
وانثروها بجبيني
سوف تحكي
ان غايات جنوني
ان أرى النور بقلبي
في مصابيح الجوامع
وفراغات الشوارع
في ارتخاءات الكراسي
حين تنشق اصابع
* «ص 31، 32».
أيمن عبد الحق يؤدي نصوصه بتلقائية شديدة، وكتابته للشكلين دليل قدرة نسقية جمالية، وهو يعضد هذا الشكل بذاك، ولعل التعضيد الكبير سيتجلى بشكل مدهش حين يمزق النسيج اللغوي - بحسب قول اليوسفي، فالشاعر هو «الشخص الوحيد القادر على تمزيق النسيج اللغوي، وفتح آفاق تعبيرية جديدة يرفد بها النظام اللغوي نفسه، لكن تلك العملية لا يمكن أن تأتي ارتجالا انها الصدى المباشر للمعاناة، معاناة البحث عن اللغة التي تستجيب للرؤيا».

محمد لطفي اليوسف
في بنية الشعر العربي المعاصر، سراس للنشر

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved