تحدثنا في الأسابيع الماضية عن الفترة الزمنية التي سبقت ظهور النقد الأدبي، وهي مرحلة مهمة للغاية في عالم النقد الأدبي الحديث، حيث مهدت الأرضية العامة لظهور نقد منهجي منطلق من المعرفة العامة، فوجود تعليم حديث ودخول مطبوعة عربية حديثة الى البلاد كان من أهم الركائز التي يرتكز عليها الأدب الجديد في مواجهة التقليد البالي وترديد أقوال السابقين بما يشبه الى حد بعيد تكرار القول بصيغته القديمة دون أدنى تجديد فيه. وكان المثقف الذي استقى ثقافته من المصادر العربية الحديثة وما جاء الى البلاد العربية من الترجمات الغربية الحديثة قد سئم حياة التقليد البالي وتكرار اللفظ والمعنى بما لا روح فيه، لكنه كان ينتظر اليوم الذي يجد فيه القناة الثقافية التي يستطيع التعبير من خلالها، كما كان يطمح في تأسيس مدرسة نقدية عربية محلية يمارس من خلالها منهجاً جديداً، كما هو حال البلاد العربية التي سبقت هذه البلاد في مجال الثقافة والتعليم، فكان ظهور الصحافة العربية في العهد الهاشمي من أكبر الأحداث الثقافية في اقليم الحجاز بصفة خاصة.
وقد تنبه الى ذلك كبار المثقفين في ذلك الوقت، فقام محمد سرور الصبان بإصدار كتابه الرائد (أدب الحجاز) الذي ضم فيه مجموعة من كتابات الشباب في ذلك الحين، ثم شكل ظهور الصحافة النقدية في منطقة الحجاز، منذ ظهور الصحافة العربية، في العهد الهاشمي، هاجساً نقدياً حديثاً، مثلما تشكل في النقد المصري، بظهور مدارس للنقد، لكل مدرسة روادها ومناصروها، وسواء كان ذلك في مصر او في المملكة، فإن الأمر قد توقف على ثقافة الناقد وتوجهاته الفكرية، لكن المدرسة النقدية في المملكة أرادت ان تتخذ لنفسها شخصية مستقلة عن التقليد، بالرغم من وجود اتباع للمدرسة المصرية، كما ذكرنا من قبل، وهذه حالة طبيعية، في عالم النقد الأدبي الحديث، الذي يرفض الخضوع للأقلمة، لكنه لا يستطيع الوقوف على قدميه بدون مرجعية ثقافية مشتركة، بما يسمى التنافذ مع الآداب العربية والغربية، في لغاتها او مترجمة على اللغة العربية.
وإذا كان الناقد قد اصبح جاهزاً لممارسة العملية النقدية - كل على طريقته وما تمليه عليه مرجعيته الثقافية - فإنه ينتظر فرصة وجود القناة الثقافية التي يمكنه النفاذ من خلالها الى العالم النقدي العالمي، وليس المحلي فقط. وهذه الطموحات التي يحلم الناقد الأدبي بتحقيقها، قد هيئت له من خلال المنفذ الملائم للنقد، وهو منفذ الصحافة الأدبية، فقد وجدت المادة النقدية، بجانب القناة التي يمكنه النفاذ من خلالها، وهي الصحيفة.
وقد ذكرنا دور الصحف الجديدة في العهد السعودي، ومنها الصحيفة التي يعود الفضل فيها الى تأسيس المدرسة النقدية. فصحيفة صوت الحجاز كانت المنبر الأول الذي حقق الطموح بتأسيس مدرسة نقدية، بصرف النظر عن توجه المدرسة، (تقليدية مجددة، او حديثة) وأياً كان الأمر، فالمدرستان - على ما بينهما من خلاف - متفقتان على التجديد، لكن الخلاف يأتي في التطبيق الأسلوبي، الذي تعمل به كل مدرسة.
فما ان وجد الإبداع، الذي يقتات عليه النقد، حتى ظهر النقد الأدبي، وابتعد عن المناقشات الإصلاحية في اللغة والتاريخ والمواقع الجغرافية، مع بقائها، لكنها أصبحت مادة ثقافية فقط، وليست مادة نقدية.
وأصبح التوجه في غير نقد المادة الإبداعية منصباً على إصلاح الأدب، كتوجيه لما يرى الناقد انه من رواسب الماضي الغابر، واستبداله بنوع جديد من الأدب الحديث وكان لظهور المدرستين (المدنية والمكية) كبير الأثر على النقد الأدبي، وظهور مجموعة من النقاد، كل حسب جهده في النقد، للانضمام الى إحدى المدرستين، وقد اتخذ هذا الانضمام عدداً من الطرق والتوجهات، منها:
أولاً: قناعة الناقد بمنهج المدرسة النقدي.
ثانياً: التحيز لصاحب المدرسة ضد الطرف الآخر.
ثالثاً: الانتقام من الطرف الآخر، عن طريق المدرسة، بحجة القناعة بمنهج المدرسة.
رابعاً: حب الظهور، وإثبات الذات الأدبية عن طريق النقد، والتشبث بالآخر، كما فعل شعراء النقائض. ولأن المثقف - بشكل عام- يتوق على تكوين مدرسة نقدية ذات منهج مقنن في النقد، فإن رواد النقد الأدبي كانوا يتوقون على ما يمكنهم من تأسيس منهج نقدي محلي في إطار المنهج العربي الحديث في النقد. وكانت معالم ذلك المنهج قد ظهرت بوادرها في اتجاه المدرسة المدنية على الترسيخ العلمي من خلال التجديد في أساليب النثر والشعر، مع الحفاظ على الهوية العربية في البناء.
كما تاق البعض من المحدثين على تكوين مدرسة حديثة ذات بناء جديد على النمط المهجري، للتخلص من الماضي واستبداله بالحديث. وبالرغم من أن معالم المدرستين النقديتين لم تكن متغايرة تماماً إلا ان الفرق يكمن في اتجاه كل منهما، بهدف صنع أدب حديث له صفاته وسماته المميزة، في شمولية الأدب العربي. وسنرى توجهات كل منهما، خاصة عندما أدرك مؤسسوها ضرورة وجود نقد يقيم الأدب الحديث الذي طرأ على البلاد.
وسنتحدث عن المدارس النقدية الثلاث التي ظهرت في تلك الفترة، وأسست للنقد الأدبي الحديث في البلاد منذ ذلك الوقت، بفضل ظهور الصحافة كمنبر ثقافي حديث.
|