«القهر» طوق من الاضطرار يسخّر المرء على رغم إرادته ويصد طموحه، فهو مدى من فعل الضرورة وناتجها وليس من فعل الاختيار وناتجه.
وانحصار الإنسان في حدود الضرورة، فقط، لا يضاد جغرافيا الجسد الإنساني بل يضاد جغرافيا الروح والمعنى الإنساني ذاته، حيث تنتفي عن مفعول القهر الصفة الإنسانية، وهي صفة تحمل بالضرورة ممكنات الخروج عن تلك الحدود والقيود الجغرافية لتمنح الإنسان الإرارة والوعي،والحرية والاختيار، والثقة والمسؤولية، وبذلك يصعد الى مستوى الفعل والفاعلية.
لكن السؤال الذي يمكن ان نطرحه بصدد هذا المعنى هو: هل هناك حياة بشرية بلا قهر؟!. من المؤكد ان الإجابة على هذا السؤال تحملنا إلى التعاطي مع القهر لا بوصفه سبباً وإنما بوصفه نتيجة، ذلك ان الحياة البشرية محكومة بيولوجيا واجتماعياً واقتصادياً.. الخ، بحدود وقيود، يمكن ان نعدها، من أكثر من وجه، أسباباً لتحجيم مساحة الاختيار، وتضييق مسافة الحرية، ومن ثم إنتاج قهر، او بمعنى أدق، ألوان من القهر، تحيل الحياة الإنسانية الى امتداد من طرق التعامل معها، والاحتيال عليها، والحلم بتخطيها.
ذلك أمر واقع لا سبيل الى القفز عليه، فهل هو ما نعنيه بالقهر؟ وهب أننا نعنيه، فكيف ندير الحديث عنه طالما منحناه بهذا التصور مكانة تعلو على الحديث عنه او الجدال فيه، لأنه الواقع وليس الفكر، والسبب وليس النتيجة، والكائن وليس الممكن، فنحن بعده لا قبله، وتحته لا فوقه، ووراءه وليس أمامه، ذلك هو ما يحاصرنا في دائرة المفعولية والصمت!.
لنحاول، إذن، ان نتخذ زاوية أخرى للنظر تتيح أن نرى القهر من الداخل، من حيث ما ينتجه من ثقافة وما يصنعه من معان وقيم ومواقف وصور ذهنية ونماذج هي أشبه بالمرايا المتعاكسة والمزورة للواقع، تضخيماً أو تصغيراً وتشويها، يلوب الفرد والمجتمع بينها مذعوراً.
أي ان القهر، هنا، يغادر الواقع الى الذهن، ويتحول من المادة الى الفكر، ومن المرئي الى الرؤية. حيث تتساوى الظروف المادية السابق ذكر أمثلتها وتختلف الرؤية اليها والتفكير فيها والحساب لها. هنا يغدو القهر ثقافياً أكثر من أن يكون اجتماعياً أو ظرفياً، ومعنوياً لا مادياً..
الإنسان المقهور لا تقهره ظروفه بقدر ما يقهره فكره وثقافته وطبيعة رؤيته وتصوراته الكونية، إنه مقهور لأنه لا ينتج ثقافة تتخطى به الضرورة، وتتجاوز به الواقع، وتنتصر به وله. انه لا يريد لأنه عبد، ولا يفكر لأنه جسد، ولا يحلم لأنه لا يطمح، التحرر من قهر العبودية ليس بإطلاق العبد من قيده الحديدي بل بإطلاق فكره ووعيه وإرادته. صاحب الإرارة، هنا، حر لا عبد، والقادر على التفكير إنسان لا جسد، ومن يمتلك الحلم يمتلك النصر والحياة، ويمتلك تالياً، الغد البعيد.
* قانون التغيير، هنا، ينبثق من الداخل متجهاً الى الخارج، انه تغيير للفكر والتصور بما ينتج عنه تغيير للوقائع والظروف، هو تغيير للفكرة لا للمادة، ولطبيعة العلاقة بالواقع التي تصنعها الذات الثقافية ولا يصنعها الواقع، ولان تغيير «ما بالنفس» فعل داخلي من صميم الذات واختيارها أصبح نقضاً للضرورة وضداً للقهر الذي يتلبس العنت والاضطرار ويتنافي مع التغيير والحركة.
تغيير النفس، أيضاً، فعل تربوي وثقافي، التربية، صياغة وإنشاء بالاتجاه الى نماذج وقيم ومبادئ. والثقافة، هي الأخرى، بمعناها الأشمل، توجيه لسلوك الفرد بموضعه في الفضاء الاجتماعي.
هكذا تحمل التربية كما تحمل الثقافة، فعلاً ذا طبيعة قهرية واضطرارية، من حيث ما يتضمنانه من ظرفية وحصار، وما يتوسلانه من إلزام واضطرار، لكننا، بهذا، ننسى انه لن يتحقق من التربية ولن يمتثل من الثقافة مقدار أكثر من ذلك المستوى الذي تتشربه النفس عن اقتناع وليس عن اضطرار، وعن اختيار لا عن ضرورة، وبمحبة لا بكراهية.
يفرد ابن خلدون، في مقدمته، فصلاً «في ان الشدة على المتعلمين مضرة بهم» فيقول: «إن ارهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم، لا سيما في أصاغر الولد، لأنه من سوء الملكة، ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين او المماليك او الخدم سطا به القهر وضيّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه الى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له، من حيث الاجتماع والتمرن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين، وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف.
القهر، إذن، ينتج ثقافة تحمل خصائصه على مستوى السلوك والموقف، وعلى مستوى النظر والرؤية، وعلى مستوى القيم والمبادئ، وهي ثقافة الحيلة والملق، وثقافة الذل والخنوع، وبكلمة واحدة، إنها ثقافة الاضطرار، القهر، هكذا، لا يبني بل يهدم، وبوسعنا ان نقرأ في كل صور الانهدام الإنساني، من الخيانة الى الكسل ومن النفاق والمكر الى المرض والفقر والجهل، فعلاً قهرياً أصبحت تلك الصور، بموجبه، علامة هزيمة لا انتصار وموت لا حياة.
ثقافة القهر، دوماً، مفعولة ومجرورة ومضافة، فهي لا تفعل لأنها لا تملك اختياراً، وهي لا تختار لأنها محرومة من وعيها الذاتي، وهي لا تعي لان القهر يسلبها فعل الوعي ويقصيها خلف من يفكر ويعقل ويحس ويتخيل بالنيابة عنها.
يُروي ان اعرابياً صلى صلاة مخففة، فقام اليه علي بن ابي طالب «رضي الله عنه» بالدرة، وقال: أعدها، فلما فرغ الأعرابي سأله علي: أهذه خير أم الأولى؟، فأجاب: بل الأولى، فقال علي: ولم؟، قال: لان الأولى لله وهذه للدرة.
الدرة، هنا فعل القهر الذي استلب من الأعرابي صلاته، أي وعيه الذاتي بها، وإن رام منحها له، لكن هذا القهر لم يبلغ من الأعرابي - لحسن حظه- مبلغاً ثقافياً وشعورياً يحمله على الكذب الذي يطمس وعيه بما فعل. فكيف لو بلغت الدرة بالأعرابي الي تخوم ثقافة القهر المظلمة؟! حيث الكذب على الله، والنفس، وصاحب الدرة!!. ومن ثم متاهة التزوير والتكاذب المتبادلة بلا نهاية!!.
|