الذين يرصدون واقع الصحافة العربية والمحلية دارسين أو محللين محبين أو شامتين؛ يمكنهم أن يجدوا فرصتهم السانحة في الحملة الببلوغرافية التوثيقية السنوية التي تطلع بها الصحف نهاية كل عام، ففي الأسبوعين الأخيرين من ديسمبر تجتهد الصحف العربية وتتبعها بعض الصحف المحلية في تعقب أحداث العام الماضي السياسية والثقافية، وتصدر هذه الصحف صفحات خاصة توجز فيها ما تراه أبرز أحداث العام وملفاته وكتبه وإصداراته وأخباره، وهو تقليد إنجليزي درجت عليه الصحف الأوروبية والأمريكية الرصينة حتى غدا صناعة تنافس في إتقانها، وهي لا تكتفي بيوم أو أسبوع بل تستغرق شهر ديسمبر كاملاً.
ولعل ما يثبت أن نظام الأرشفة الإلكترونية والورقية والذهنية وصل إلى حد كبير من التعاسة في الصحف العربية النظر إلى مختاراتها لهذا العام من الأحداث والإصدارات إذ يمكن بلا عناد أو كدِّ ذهن ملاحظة نقصانها وتهافتها وضحالتها؛ بل إن الصحف العربية الدولية التي تفاخر بأرشيفها الإلكتروني ومحرريها المحترفين اكتفت باستطلاع آراء عدد من الكتاب والمثقفين حول أبرز ما قرأوه ولفت نظرهم، ثم استنجدت بما عرضته وكالات الأنباء من ملخصات لأحداث العام، ولم تكلف أقسامها السياسية أو الثقافية أن تمسح أبرز أحداث العام وتعيد قراءتها بإيجاز كما تفعل الصحف الدولية التي تقدم قراءة جديدة للحدث بوصفه ماضياً له ذيوله وتبعاته أو عبره.
ويسجل لبعض الكتاب أن ذاكرته كانت أفضل من أرشيف الصحف، غير أن تعداد الأحداث والأسماء لم يعد مغرياً بقدر الالتفات إلى أهميتها وفاعليتها، وما يمكن أن يلجأ إليه ذو الشأن العام هو أن ينبش ذاكرته ليتأمل فيما مضى من العام، ويتذكر بعض ما لفته عربياً ودولياً، ولا شك أنه يغفل أكثر مما يذكر، ففي مصر على سبيل المثال لا يمكن نسيان الفقد الذي ابتليت به هذا العام إذ كانت وفيات عبدالرحمن بدوي وعبدالقادر القط وخليل عبدالكريم حدثاً بوصفهم نجوماً ثقافية خبت، ولا شك أن المصادرة الشهيرة التي دهمت دور النشر اللبنانية والسورية المشاركة في معرض القاهرة في يناير مطلع 2002م وعدم فسح أي من كتبها وانتظار بيروقراطية موظفي الجمارك في دمياط ثم منع ومصادرة معظم العناوين؛ كانت حادثة مأساوية لن ينساها المشاركون في المعرض، ولم تلبث حادثة أخرى لعلها توازي أزمة «وليمة لأعشاب البحر» والروايات الثلاث وان انفجرت لكنها سرعان ما مرت مرور الكرام وهي الحكم على شهدي نجيب سرور بالحبس مدة عام مع الشغل بسبب نشره قصيدة قديمة لوالده على الإنترنت، هذه الأحداث الحزينة لم تلغها أفراح الافتتاح لمكتبة الإسكندرية العملاقة، ولا انشغال الناس بالقصة الغريبة التي تفوح منها رائحة التآمر على الثقافة وعلى التراث المصري العربي في موضوع سرقة سمَّاها أناسٌ اختفاء مخطوطة نادرة هي رسالة الإمام الشافعي من دار الكتب والوثائق القومية، وتورط عدد من المتنفذين في الموضوع، وما بدأ العام بمصادرة الكتب في معرض الكتاب انتهى بمصادرة مجلة «زوايا» لبيار أبي صعب بسبب غلافها الساخن، وسبق ذلك مصادرة أعداد مجلة «الآداب» البيروتية العتيقة بسبب ملف يتحدث عن الرقابة المصرية والكتب التي منعتها وصادرتها، وسرعان ما اكتشفت الرقابة أنها تفسح موضوعات وكتباً أكثر تجاوزاً فأعادت النسخ المصادرة، وتساءل المثقفون في مصر عن اتخاذ القرار والتراجع عنه دون مبرر في الحالين..
والحال في مصر يمكن نقله إلى عدد من النماذج العربية.. محلياً شُغِل الناس بمتابعة بيانات المثقفين السعوديين والأمريكيين وبالحوارات العلمية الراقية المركزة حول «موسوعة الأدب» و«مناهج التعليم»، وكان معرض الكتاب في الرياض ثم في جدة نجم الموسم الثقافي، والمفاجأة التي دهش لها المثقفون، فكثير من الأسماء والعناوين المنبوذة لفسادها وضلالها توافرت في رفوف المعرض، ويبدو أن الدهشة التي عقدت الألسنة والأذهان بالإضافة إلى ضيق ذات اليد حالت دون بلوغ المبيعات الأرقام التي توقعها أصحاب دور النشر المختصة بنشر الكتب والجيوب معاً، وإذا أضيف لنجومية المعرض عودة النجم غازي القصيبي وتوزيره ثم اختتامه العام بثلاثة كتب دفعة واحدة ما شكل تحدياً لمن راهن على انشغاله بالحقيبة عن التأليف والنشر؛ ستكون الثقافة المحلية قد ودعت العام بهدوئها واستقرارها المعروف.
طوى عام 2002م عباءة عاصمة الثقافة العربية اللقب الذي تتصدق به اليونسكو عن عمّان وودّعها ومضى دون أن تسجل كغيرها من المدن السابقة إنجازاً يذكر؛ إلا إذا كان افتتاح شارع الثقافة وسط عمّان إنجازاً، وهو بالمناسبة شارع 11 آب سابقاً، وقد تناثرت على جانبي شارع الثقافة مطاعم وجبات ثقافية سريعة، ومصارف ومقاه وكراسي وطاولات ثقافية، عمّان أيضاً سحبت الجائزة التي منحتها للمسكين حسن حميد عن روايته «تعالي نطير أوراق الخريف» لمجرد أنه عرض مخطوطاتها على دار سعاد الصباح، بينما انشغلت بيروت من روشتها حتى أخمص قدمها بالفرنكفونية بين تفاخر وتنابز واتهامات ومزايدات تقوم عليها اللعبة السياسية والثقافية هناك، وضاع في زحمة الهم الفرنكفوني الكبير معرض الكتاب الذي مال إلى الفرنسية دوراً وكتباً وندوات، وكانت دار المدى في دمشق قد سجلت استثناءً مبهجاً في الحياة الثقافية السورية بعد إغلاق منتديات الحوار الخاصة حين دشنت مشروعها «الكتاب للجميع»، مع التنبه إلى أن محمد الماغوط خرج من شقته وتحدث للصحافيين وصدر كتاب له وعنه، وبهذا يكون المشهد السوري قد أغلق ستارته كما فعلت بغداد بعد أن هاجر أو هرب منها آخر مثقف لا يقوى على بيع مكتبته وثيابه في شارع المتنبي، دول الخليج حائرة بين المهرجانات الغنائية والمهرجانات التسويقية فضاع بابطينها وعويسها وقوينها، واستمرت الشارقة تعزف لحنها وحيدة، وفي الوقت الذي أصدرت فيه الأمم المتحدة تقرير التنمية الإنسانية العربية الذي يشيب له الولدان شغلت المحطات الفضائية الناس بالمسلسلات الرمضانية والمسابقات الهاتفية والكليبات الشهية.
هل هذا كل شيء؟ هل يمكن سكب الذاكرة العربية لعام كامل هنا؟.. حتى لو كان هذا ممكناً فإنه لم يعد مهماً، فالعرب ملوا من الالتفات للوراء وأصبحوا ينظرون دوماً إلى الأمام، دوماً إلى الأمام.. والمهم هو الشيء الذي بقي لا الذي زال وانقضى، والذي بقي هو عام 2001م وبشكل خاص سبتمبر منه وبوجه أكثر خصوصية الحادي عشر منه، إذ يبدو أن استحقاقاته لم تدفع حتى الآن، فلقد استطاع الكتاب والصحفيون الأميركيون بعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة أن يستعيدوا توازنهم وأن يكتبوا في الحدث الذي هزهم ما يستحقه، وبينما تمالك الأمريكيون أنفسهم بعد «غزوتي» نيويورك وواشنطن فأصدروا محللين وساخرين عشرات العناوين المهمة حول الحدث والإرهاب والتطرف والأنا والآخر، حول الإدارة الأمريكية وأخطائها؛ ظل العرب مصعوقين حتى هذه اللحظة، وإلا فبماذا يفسر التطواف على دور النشر والمكتبات والعناوين والمواقع الإلكترونية دون الحصول على عنوان عربي واحد يعالج الأرق الذي سببته هذه الأزمة؟ إلا إذا كان التنافس على طباعة كتاب تيري ميسان المؤامراتي، وترجمة مقالات فريد هاليدي في «ساعتان هزَّتا العالم» عملاً عربياً جباراً.
هذا العام 2002م شهد قولاً واحداً أكبر ذهول عربي يمكن وصفه، إذ يبدو من كل ما يحدث أن صدمة أواخر العام 2001م لم تغادر العرب عامة وخاصة، فما زالوا يفقتدون إلى مشروع سياسي أو إعلامي واحد يتعاملون به مع الحدث وما زالوا لا يجدون خطاباً ثقافياً متسقاً يعرضون به حججهم ويدافعون عن أنفسهم، ولم يقدموا بعد مرور أكثر من عام ونصف العام على الحدث سوى مزيد من الأسئلة الجديدة والغموض الذي يحير العالم.
هذا العام 2002م مضى بين إرهاب فردي وإرهاب جماعاتي وإرهاب حكومي، وأمريكا ما زالت تقدم لإسرائيل الطائرات و مروحيات الأباتشي وصواريخ الباتريوت والإعانات والقروض المعجلة والفيتوات المعطلة وتطالب الفلسطينيين بوقف الإرهاب، وبينما تدشن مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط يستكمل دفاعها قصف القرى الأفغانية، وتنشغل خارجيتها بتسويق شرائط فيديو إعلانية غير مدفوعة الثمن رفضت عرضها معظم المحطات وتراجع الآخر بعد عرضها لأن المشاهدين تعاملوا معها كما يتعاملون مع الإعلانات التجارية التي لا يصدقون أن مسوِّقيها يحرصون على صحة ورفاهية المشاهد أكثر من ملء جيوبهم.
هذا العام 2002م حرب إلكترونية ضروس ومنافسات محتمدة على الشبكة الدولية، السودان تتقاتل مع السودان، والجزائر مع الجزائر، والجامعة العربية مع الجامعة العربية، وما زالت القضايا هي القضايا ذاتها منذ خمسين عاماً، وبعد خمسين خريفاً من النضال والثورة والكفاح، وما زالت قناة الجزيرة نجمة «الخلاف» العربي بامتياز، وما زال العراق يخلع عنه آخر ملابسه، وما زال بوش ينظر إلى ساعته.
|