ينبغي في البداية الإشارة إلى أن هناك تحفُّظاً على إطلاق مصطلح «المعركة» أو «المعارك» على المناقشات الفكرية والأدبية والثقافية بعامة، وذلك لسبب جوهري معرفي يُبْعِدُ وجه الشبه بين المناقشات مهما علتْ حدتها وتعالت الأصوات والنبرات فيها، وبين «المعارك» وهو - أي السبب الجوهري - أنَّ المُناقشاتِ الفكرية الأدبية ذاتُ مردود حضاري ثقافي على الساحة، وتُخلِّف مناخاً خصباً وثراءً، وتاريخاً وتسجيلاً وذكرى، وقد تحق حقاً وتبطل باطلاً، وتصحّح، وتضع النقاط على الحروف. ثم إنها جزء من لغة العقل والثقافة والموقف والرأي والانتماء..
وقد مرَّ بساحتنا الثقافية المحلية في مختلف مراحلها مجموعة من النقاشات والمساءلات الثقافية التي احتدَّ فيها الاختلاف حول حقيقة ما أو موضوع ما أو شخصية ما، ومع أنّه من غير المعقول أدبياً وإنسانياً واجتماعياً استمرارُ النقاشات والأخذ والردّ، ومع أنَّ من المؤكد أن تصل تلك النقاشات والمساءلات إلى نهاية ما.. مع كلّ ذلك يعود توقف هذه الصيغ الفكرية إلى سبب رئيس ويمكن أن نعدَّه سبباً غير ثقافي وهو: تحوُّل تلك المناقشات والاختلافات في الرأي والموضوع إلى (المسألة الشخصية)، وخروج الحوار الدائر بين طرفين أو أطراف عدة إلى (المساس بالجوانب الذاتية والأخلاقيات) بدلاً من الاستمرار في النسق الثقافي الموضوعي، الأمر الذي قد يصل إلى مستوى الإسفاف والشتم والسب والقذف والتشهير، وهنا تُضطر الصحيفة أو المجلة، أو المطبوعة إلى إيقاف المسألة برمتها!!
والساحة الثقافة المحلية كغيرها من الساحات الأخرى استفادتْ- لا شك - من الحوارات والمناقشات والأخذ والعطاء وأهم مردود يمكن أنْ نذكره هنا هو تربية الفكر الحر، وإظهار الصوت المستقل، والسماح بمزيد من الحاكميّة في دائرة التلقي لدى الناس، مع التأكيد على أنَّ المسألة نسبية من مناقشة إلى أخرى، ومن حوار إلى آخر، ومن مفكر إلى مفكر، ومن قضية كذلك إلى قضية، فليست كل المناقشات ذات أسباب وظروف ومناخات واحدة..
هذا شيء.. الشيءُ الآخر هو أنَّ الجريدة أو المجلة - كما الكتاب - لم تعد وحيدةً في الساحة، ولم تعدْ المجال الثقافيَّ الحيويَّ للنشر والاتصال فكما ظهرت الإذاعة والتلفاز كذلك انفتح الفضاء العجيب وصار يصل إلى المتلقي عبر أجهزه الحاسب الآلي وعبر شبكة المعلومات المذهلة التي جعلت من الاشتغال بالتحرير والكتابة، وبالاطلاع والقراءة أمراً مرجوحاً ثانوياً يمكن أن يجعل عنواناً لحقبة معينة من حقب التحصيل، والتزود بالمعرفة وذلك شيء مرعب فعلاً..
على أن الشيء الثابت أن مناقشاتنا المحلية ظلّت حبيسة المناخ الداخلي فلم تضفْ شيئاً ذا بال في مسألة الانتشار خارجياً لأنّ هذا الأمر - أقصد الانتشار - له سياقه وأسبابه ودوافعه الأخرى التي لا تقتصر على موضوع المناقشات فقط وإنما تشمل الابداع الفكري والأدبي والثقافي بعامة..
وفي هذا الصدد أميل في رؤيتي الشخصية إلى أن اندلاع المناقشات الفكرية الثقافية والأدبية المحلية كان ذاتياً بحتاً ولم يكن لساحة من الساحات الأخرى دور في وجود هذا النوع من السّجال الأدبي وإذا خطر في البال ساحة رائدة مثل الساحة المصرية، أو ساحة ذات أصالة وجذور مثل الساحة السورية واللبنانية، أو ساحة ذات طابع نضالي استقلالي مثل الساحات المغاربية (تونس، المغرب، ليبيا، الجزائر) فإن المسألة هنا لا تتعلق - فقط - بموضوع المناقشات والحوارات وإنما يشمل كل أنواع الابداع والفن.. أقصد أن تأثر الساحة المحلية كان تأثراً متكاملا.. وإذا أردنا أن نؤكد هذا المفهوم فمعنى ذلك أن المناقشات والمساءلات جزء أو جانب أو فصل من فصول الاثراء الفكري والثقافي العربي عامةً.
تجدر الاشارة هنا إلى أنّ واقع الفصل بين الدول العربية الذي خطّط له الاستعمار الأجنبي، ورسمه، ونفذه، وتابَعَه بعد ذلك له دور خطر جداً في بقاء القضايا والمشاركات حبيسة الساحات الداخلية، وذلك لأن الأخذ والرد والتعبير والكتابة حول قضية ما هو ناتج تلقائي عن الإحاطة والمعرفة والإطلاع وذلك ما نفتقده.. أما إذا نظرنا إلى واقع الساحة المحلية الداخلية ثقافياً فإنّ العجب، يبلغ مداه، فبرغم التأسيس الحقيقي للتجديد والتطور، وبرغم ظهور اتجاهات حديثة معاصرة في الأدب والثقافة.. برغم ذلك مات النقاش، وخمدت المساءلات الفكرية والأدبية، واختفت تلك الحوارات، وكدنا أن نقف معاً طابوراً بائساً خلف الصوت الواحد، وهنا لا يخفى أن عوامل غير ثقافية وغير فكرية ولا هي أدبية كانت وراء هذا اليباب الحاصل والعارفون بشؤون الساحة يدركون تماماً ما الذي حصل في عام 1409هـ وما بعده.. والذي حصل لم يَطَلْ - فقط - المناقشات ومساحة الرأي وخارطة الأخذ والعطاء وإنما كان لعنةً حقيقية لكل ما هو ثري وغني ومتفوق وعبقري.
وفي ظل التراجع الحاصل في المسألة الثقافية الحقيقية كان لا بد أن ينشأ مناخ خصب لكلّ ما هو عادي وسقيم وغير صحيّ، وليس أسوأ من الاحتفال الطاغي باللهجة الدارجة والأساليب المحكية دليلاً على مدى الإحباط واليأس الذي أصاب الساحة الثقافية، والمخيف هنا.. أنَّ الأجيال التي تفتَّحت مداركها خلال السنوات الخمس عشرة الماضية أجيال مسطحة ضامرة الفكر لا تعرف شيئاً عن الأدب الحقيقي ولا عن المبدعين المثاليين، لذلك اتجهت وبمساعدة الفضاء المدمر أيضاً إلى نوع من النمط المعيشي الاتكالي الاستهلاكي بعيداً عن الثقافة والفكر والأدب والتفوق والإضافة، وبعيداً عن أسلوب الجهاد والاجتهاد في الحصول على المعرفة، وحفظ ما يحصلون عليه.. وتلك كارثة وجودية لن ندركها الآن، وإنما سنعيش نتائجها ومحصلاتها بعد أنْ تنحسر موجة الانبهار، وتسقط كل الأقنعة التي كانت تحجب الرؤية وتقتل الرؤيا.
|