عنوان مثير مثل «النقد والمجتمع» كفيل باجتذاب بعض القراء إلى هذا الكتاب المترجم: فنحن أمام مساحة هائلة للتأمل والتنظير والكتابة و.. الاختلاف.
الكتاب من ترجمة الناقد الفلسطيني/ الأردني فخري صالح، أما المتأملون في القضية الكبيرة المطروحة فهم مجموعة من أبرز المشتغلين في حقل النقد الأدبي والفكر المتصل به: رولان بارت، جاك ديريدا، نورثروب فراي، بول ديم ان، إدوارد سعيد، تيري إيجلتون، جوليا كريستيفا. يتحدث هؤلاء في حوارات أجراها معهم محاورون مختلفون في أزمنة وأمكنة مختلفة وقام المترجم بجمعها وتحريرها بالإضافة طبعاً إلى نقلها إلى العربية. الكتاب صادر عام 1995م عن دار الفارس في عمان، الأردن «مع أن الغلاف الأخير يشير إلى المؤسسة العربية للدراسات والنشر».
في مقدمته القصيرة يشير فخري صالح إلى أن عنوان الكتاب مستمد من كتاب صدر قبل ذلك بحوالي عشرة أعوام للأسترالي إمري سالوزنسكي وكان أحد مصادر ما تضمنه كتابه من حوارات. ويتضح أن ثلاثة فقط من تلك الحوارات هي التي ترجمت من كتاب سالوزنسكي الذي يحمل العنوان الذي تبناه صالح مع تعديل طفيف: «النقد في المجتمع »Criticism in Society، أما البقية فاستقيت من مصادر مختلفة في دوريات وكتب أخرى. والاختلاف بين ما اختاره صالح وما اختاره الأسترالي ليس في عدد الأشخاص المدرجين «تسعة لدى سالوزنسكي وسبعة لدى صالح»، وإنما هو أيضاً في رغبة صالح، كما يبدو، في إدراج عدد أكبر من الناطقين بغير الإنجليزية وكأنه يقيم توازناً بين الفرانكوفونية والإنجلوفونية. إلا أن المترجم لم يفصح عن السبب ورء اختياراته تاركاً المبرر عائماً وراء المبرر الأكثر عمومية وانتشاراً في الخطاب النقدي العربي الحديث: أهمية التفاعل مع المنجز الغربي في النقد الأدبي وغيره لاسيما في سياق القضية الكبرى المطروحة: علاقة النقد بالمجتمع وما فيه من أفراد وأنظمة ومؤسسات.
كيف تتبلور هذه المسألة من وجهة نظر فخري صالح؟ أود التوقف عند هذه المسألة قبل الدخول في تعريف بعض القضايا التي تطرحها الحوارات. يقول صالح: إن الجامعات في الغرب تتميز باحتضانها للمعرفة وإتاحتها الفرصة لمختلف التيارات لتنمو داخلها، حتى تلك التي تتعارض مع التوجهات السائدة في المجتمع، كما في نمو التيار الماركسي في الجامعات الأمريكية، لكن فرص تواصل تلك المعرفة مع المجتمع عموماً محدودة جداً. وينطلق من هذه المقولة إلى الجامعات العربية ليجد مشكلتها في انغلاقها عن المنجز الحديث: «إن الجامعات العربية غائبة نسبياً، عن المشهد النقدي المعاصر». أما بالنسبة للمجتمع المحيط فالجامعات لا تعاني من مشكلة.
ما يعنيه هذا هو أننا إزاء وضع تكون فيه الجامعات، فيما يتصل بالنقد الأدبي، مكتنزة بالمعرفة والحرية في توليدها، ولكنها معزولة عن المجتمع «الغرب»، وأخرى تكون فيه الجامعات على صلة قوية بالمجتمع ولكنها فقيرة بالمعرفة الحديثة «الوطن العربي». هذا الاستنتاج لا يخلو من تبسيط مخل، فليس الاتصال بالمعرفة الغربية ضعيفاً إلى الحد المشار إليه، وإن حدث فليس بالعمومية التي بنيت عليها النتيجة. لكني سأتجاوز هذه المشكلة إلى ما أراه السؤال الأهم وهو: هل نحن بحاجة إلى كل المعرفة النقدية الغربية؟ هل ينبغي للانفتاح أن يكون بلا حدود؟ هذه من الأسئلة التي لا تطرح كثيراً في الأوساط النقدية العربية لاسيما ما يطالب منها بالتحديث والانفتاح على المنجز الغربي في العلوم الإنسانية على وجه الخصوص.
في مقدمته يلمس فخري صالح سمات الاختلاف الواضحة بين الوضع الثقافي العربي ومقابله الغربي، ليس في مسألة الانفتاح على المجتمع ونوع المعرفة النقدية المتداولة فحسب، وإنما أيضاً فيما يتصل بدور المثقف. فهو يطالب المثقف بالاضطلاع بدوره التنويري ويقصد بذلك إشاعة المعرفة العقلانية المتحررة. ومع أن مطالبته تمتد فيما يبدو إلى الناقد الغربي المعزول في جامعته، فإن حاجة الناقد العربي المرزوء ب«تخلف» الجامعات العربية إلى القيام بذلك الدور، كما يتضح من الطرح الذي أمامنا، تصير أشد وطأة. غير أن المسائل هنا تزداد تشابكاً نتيجة لدخول المطلب التنويري نفسه. ذلك أن مفهوم التنوير يدخل النقاش، كما يفعل في كثير من الخطابات الثقافية العربية، دون تمحيص كاف، أو بناء على فرضيات دلالية قد تكون معروفة لدى البعض لكنها ستبدو ملتبسة لمن لديه شيء من المعرفة بالمنجز الفكري الغربي الذي يطالب به الناقد العربي. فعن أي تنوير نتحدث؟ إذا كانت المرجعية الغربية هي مرجعيتنا، كما يتمنى فخري صالح على ما يبدو، فالمسألة شديدة التعقيد، لأن من قرأ شيئاً عن التنوير سيدرك رأساً أن في مثل هذه الظاهرة يكمن اختلاف كبير ليس بين الثقافتين العربية والغربية فحسب، ولكن داخل الثقافة الغربية نفسها، التي تغدو بمثل ذلك الاختلاف عدة ثقافات لا ثقافة واحدة «ويكفي أن أشير هنا إلى الدراسة الضخمة التي نشرها في الستينيات المؤرخ بيتر غي Gay عن التنوير».
هذه الملاحظات على ما تضمنته مقدمة فخري صالح لا تقلل بالتأكيد من أهمية العمل الذي قام به حين نقل إلى العربية هذه الحوارات الغنية بقضاياها وبما تدل عليه من شخصيات تبدع في تلك القضايا سواء اتفقنا مع ما تبدع أو اختلفنا. وفي مقالتي هذه وما يتلوها أود أن أتوقف أمام بعض تلك القضايا مدركاً أنني لو استرسلت في تسجيل انطباعاتي أو مرئياتي فسأحتاج إلى مقالات كثيرة، ولست أظنني الوحيد في هذا، بل إن القارئ المتابع لما يتحدث حوله المفكرون والنقاد المستضافون سيجد نفسه في موقع مشابه، وليس من الضروري أن يكون المتابع ناقداً أدبياً أو مختصاً في الفلسفة، بل إن كثيراً من القضايا ذات طابع ثقافي فكري عام يتفاعل معه ذو الاهتمام الثقافي حيثما كان.
من بين العوامل التي أدت إلى رفع أهمية القضايا المطروحة، بل لعله العامل المحرك وراء تلك الأهمية، تأتي الأسئلة التي طرحها المحاورون، أو مجروا المقابلات أو الحوارات، فسرعان ما يتضح أن المحاور ضليع في مجال الحوار يطرح أسئلة دقيقة ومعمقة في مجال الضيف وعلى النحو الذي يستثير إجابات هامة في كثير من الأحيان، ليذكرنا بأن وضع السؤال لا يقل أحياناً عن أهمية الإجابة إن لم يفقها. فالمقابلة تطلبت من مجريها استعداداً قرائياً بحثياً رفيعاً لا يتوفر كثيراً لمن يجرون المقابلات، لأن السائد بكل أسف هي الأسئة التقليدية التي لا تستفز ذهناً ولا تستدعي إجابة معمقة.
خذ مثلاً ما يثيره الناقد الفرنسي الشهير رولان بارت في رده على ما طرح عليه من أسئلة. وكان أحد تلك الأسئلة عن الحوارات نفسها والكيفية التي ينظر بها بارت إلى الحوار، أي حوار، يجري معه. ففي إجابته على السؤال يطرح بارت عدداً من النقاط منها أولاً أن المقابلة «فعالية معقدة» يصعب تقييمها وإن لم يصعب تحليلها، ثم أنه لا يستمتع في الغالب بإجراء المقابلات و«ذلك يعود إلى أفكاري التي كونتها عن العلاقة بين الكلام والكتابة. إنني أعشق الكتابة، في الوقت الذي أعشق فيه الكلام في سياق محدد تماماً وشديد الخصوصية، وهو ذلك السياق الذي أصنعه لنفسي في حلقة دراسة..» ثم ينعطف بعد ذلك إلى نقطة طريفة هي «أنه في المقابلات التي تجرى لحساب وسائل الإعلام العام تنشأ علاقة سادية من نوع ما بين من تجرى معه المقابلة ومن يجري هذه المقابلة، حيث يحاول مجري المقابلة اصطياد بعض الحقيقة ممن تجرى المقابلة معه بطرح أسئلة حمقاء طائشة لكي يحصل على رد فعل الشخص الذي يحاوره».
هذه الملاحظات ليست بالطبع أهم ما في مقابلة بارت، لكنها من أطرفها. الملاحظات الأخرى كثيرة وأود التركيز على جانب واحد منها، تلك المتعلقة بالعلاقة بين المثقف والمؤسسة الثقافية الأكاديمية بوجه خاص. ويثير بارت في هذا السياق علاقته هو بالمؤسسة الأكاديمية، العلاقة الغريبة بالمقاييس المعتادة على ما تتضمنه من دلالات بعيدة. فالمعروف أن بارت عين أستاذاً في الكوليج دي فرانس، وهي من أرفع المؤسسات الأكاديمية في فرنسا، على الرغم من أنه لم يكن يحمل الشهادات العليا المطلوبة لمثل ذلك المنصب الأكاديمي، لكن متى كانت الشهادات دالة حقيقية على من يحملونها؟ في المقالة القادمة سأتوقف عند هذه المسألة وغيرها في مقابلات أخرى تضمنها الكتاب.
|