تعّد الامبراطورية التركية الإسلامية التي حكمها العثمانيون وامتد عمرها إلى مئات السنين وسيطرت على قطاع عريض من الأراضي في غرب آسيا وشمال أفريقيا وشرق أوروبا أضخم امبراطورية شهدها العصران الوسيط والحديث.
وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى في عام 1918م سقطت الامبراطورية العثمانية، وتقاسم الغرب المنتصر تركة الرجل المريض (كما كانوا يسمونها) ونشأت الدول المتعددة في ممتلكات الدولة المنهارة.
وقد استعمرت بريطانيا وفرنسا هذه الدول الجديدة، وأصبحت بريطانيا بالذات أكبر امبراطورية استعمارية في العالم في النصف الأول من القرن العشرين حتى قيل عنها إنها «الامبراطورية التي لا تغيب عن مستعمراتها الشمس»، ولاتساع أقطار هذه الامبراطورية الممتدة عبر القارات وتعددها أسست لها الدولة البريطانية وزارة خاصة أسمتها (وزارة المستعمرات) وعيّنت لها وزيراً خاصاً، ولم تكل أمر إدارتها والاشراف عليها إلى (وزارة الخارجية) كما هو مفترض، وكما يجري به العمل الآن بالنسبة للمستعمرات البريطانية القليلة الباقية في العالم وكانت الامبراطورية الفرنسية أكثر تواضعاً من نظيرتها البريطانية، فقد اكتفت في الزمن نفسه باستعمار شطر من البلدان الأفريقية وقليل من البلدان الآسيوية.
وعلى اثر انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945م بدأت شمس الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية بالمغيب، وقامت الدول المستقلة على أنقاض الاستعمار السابق، وألغيت في بريطانيا وزارة المستعمرات.
وإلى جانب هاتين الامبراطوريتين، وعلى أثر سقوط الامبراطورية العثمانية، نشأت في مطالع القرن العشرين الامبراطورية السوفياتية الشيوعية بقيادة روسيا، وتكوّنت هذه الامبراطورية مما يقارب ثلاثين دولة آسيوية وأوروبة إسلامية وغير إسلامية باسم الاتحاد السوفياتي، وامتدت سيطرتها إلى دول أوروبا الشرقية كلها تحت مظلة حلف وارسو، وتمدد نفوذها إلى كثير من الأنظمة الانقلابية في العالم العربي وفي دول العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، وتعاظمت قوة الاتحاد السوفياتي، وأصبحت الدولة الذرية الكبرى الثانية في العالم.
ثم سقطت هذه الامبراطورية السوفياتية سقوطاً مدوياً، وتفككت إلى دول مستقلة أكبرها روسيا قبل أن يمضي على تأسيسها قرن واحد كامل، بل تشرذم بعض هذه الدول إلى دويلات متعددة متناحرة بعد حرب عرقية طاحنة.
وهناك دول أوروبية استعمارية متواضعة كالبرتغال التي استعمرت بعض سواحل الخليج العربي وجزيرة «ماكاو» في شرق آسيا بجوار الصين، وهولندا التي احتلت «سورينام» في شمال أمريكا الجنوبية وإندونيسيا، وبلجيكا التي استولت على الكونغو في وسط أفريقيا، وأسبانيا التي سيطرت على المكسيك وعلى دول الأمريكتين الوسطى واللاتينية.
وقد زال استعمار هذه الدول الأربع، وأصبح في ذمة التاريخ، خبراً في الأخبار، وذكرى من الذكريات واستقلت مستعمراتها، ولم يبق له في أكثرها أي أثر، وبقي له في أقلها أثر محدود حيناً، وعميق في بعض الأحوال في الثقافة واللغة على وجه الخصوص.
بعد هذه المقدمة نذهب إلى القول بأن ما أصاب جميع الامبراطوريات والدول الاستعمارية التي ذكرناها الصغيرة منها والكبيرة على حد سواء هو ما سيصيب الامبراطورية الأمريكية صاحبة التأثير البالغ والسيادة شبه المطلقة على العالم في هذه الأيام.
لقد وصلت هذه الامبراطورية إلى أوج قوتها، وبلغت هذه القوة حداً لم تبلغه أي من الامبراطوريات والدول الاستعمارية السابقة.
ولماّ كان لكل صعود هبوط ولكل شباب شيخوخة وهي الفطرة التي فطر الله عليها الكائنات والسنن التي استنّها للمخلوقات والقوانين التي حكّمها في مسيرة الزمان والمكان والسكان، فلا مناص إذن من تطبيق هذه السنن والقوانين والنواميس على الامبراطورية الأمريكية الحالية.
ونحن نعتقد على وجه جازم بأن نهاية هذه الامبراطورية المتفردة ستكون في العالم الإسلامي عامة وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص إذا أقدمت الولايات المتحدة فعلاً على شن حرب شاملة عليهما، فالحرب حينئذ ستكون أشد وطأة من حرب فيتنام، والعرب وكذلك المسلمون ليسوا كأهل بنما مثلاً، وهم أقوى شكيمة من الشعوب الأخرى المعادية لأمريكا في أنحاء العالم، والتضحية الجهادية لا تتوافر في أي مكان على الأرض على النحو وبالمقدار الذي تتوافر به في العالم الإسلامي ومنه العالم العربي، والجغرافيا في بلداننا وما تنطوي عليه من المقدسات تخلو منها الجغرافيا في الولايات المتحدة، والموزايكا الديموغرافية لمجموعات المستوطنين الطارئين على الأرض الأمريكية التي تم اكتشافها في عهد ليس ببعيد لا تشبه بحال التركيبة السكانية العريقة الضاربة في أعماق التاريخ لشعوب بلدان الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وسيكولوجية شعب مستورد تجمع أفراده الثروة المالية والقوة المادية فقط ليست قطعاً مثل سيكولوجية الشعوب العربية والإسلامية الموسومة بالانسجام والموصوفة بالتوافق على الغالب بسبب القوة الروحية التي تجمعها وعمق الارتباط بالعقيدة والأوطان في اطار من التاريخ القديم المشترك المستمر بتوالٍ رتيب في حلقات متلاحقة منسجمة في الأعّم الأغلب من الأحوال.
لو قررت الولايات المتحدة الدخول في مغامرة غزو واسعة متعددة الأمكنة في الشرق الأوسط لا تقتصر على ازالة النظام العراقي فحسب، فسيكون هذا بداية انفراط عقد ولاياتها ونشوء دول جديدة بقدر عدد هذه الولايات، وستعم هذه الدول الجديدة موجات من الرحيل المتبادل بين شعوبها بحثاً عن تجانس جديد يجمع شعب كل دولة منها على حدة ويعيده إلى أصله الذي وفد منه ويؤطر في الوقت نفسه لعلاقات جديدة بين هذه الدول المستقلة قد تكون لحمة بعضها الانسجام وبعضها الآخر الخصام، وقد لا يتم كل هذا سريعاً، ولكنّه سيتمّ حتماً في مستقبل قريب أو بعيد.
أما الشرق العربي والإسلامي فإنه بمجرد أن يبدأ الغزو سيعلو ما خفت ومن مشاعره الإسلامية في بعض الأمكنة، وستتلاشى النزعات الاقليمية والدعاوى القومية الطائفية على السطح هنا وهناك، وستتحطم في نهاية المطاف موجات الغزو لو وقع في هذا الشرق.
وفي هذه اللحظة تماماً تبدأ إسرائيل في الانهيار، وتبدأ تناقضات سكانها في الظهور الحاد باستمرار، حينئذ سيواجهون مصيرهم المحتوم، فحياة إسرائيل وقوتها مرتبطان ارتباطاً عضوياً بحياة الولايات المتحدة وقوتها ايجاباً وسلباً، والتركيبة في المجتمع الإسرائيلي تشبه بالكامل مثيلتها في أمريكا، والوافدون المقامرون هنا كالمهاجرين المغامرين هناك، والمذابح التي قام بها كل فريق لسكان البلاد الأصليين متماثلة، وتأسيس الولايات المتحدة وإسرائيل وزوالهما متطابق في البداية والنهاية.
هذا هو منطق التاريخ، وهذه هي سنة الحياة، ولن نجد لهما تبديلاً.
|