ارتبطت المهرجانات المسرحية منذ كينونتها البكر بالأعياد.. فكرا واحساسا جمعيا لدى منتجي الخطاب المسرحي ومتلقيه على حد سواء بعد ان انتقلت عملية انتاج الفن من الحاجة المادية لدى المجتمعات البدائية الى الحاجة الشعورية فيما تلتها من عصور، وتحول الانتاج الفني من فردانية مطلقة.. الى حاجة جماعية وضرورة ملحة للوجود البشري، وهو ما جعل تطور الانتاج الفني يختزل ازمانا في عملية نموه الجماعية تأصلت خلالها حتمية وجوده اجتماعيا.. فغدا ضرورة حياتية وحضارية تعكس حجم التراكم الفكري لدى المجتمعات المختلفة وتطور احساسها الجمالي.. وهو ما يعطي للباحث صورة واضحة لطبيعة الحضارة باعتبارها خطاب الشعوب المنتج بشكل مباشر وغير مباشر.
واذا كان الانتاج المسرحي في عصر الحضارات الاغريقية والرومانية قد ارتبط بمهرجانات احتفالية «اذا اعتبرنا كما يؤكد العديد من الباحثين ان عصر الاغريق شهد ولادة الانتاج المسرحي» فان فكرة المهرجانات الفنية كان لها وجود ملموس ومؤشر في انشطة الحضارات العربية القديمة.. بل ان تلك المهرجانات كانت ضمن خطابها الفكري والجمالي.. «الحضارات الآشورية والبابلية والفرعونية» وغيرها من الحقب الحضارية في البلاد العربية التي تطور فيها الخطاب الاحتفالي وامتد وجوده بشكل عام للمجالس العربية والاسواق «كسوق مجنة والمجاز وعكاظ الذي اعتبر من اهم تلك الاسواق واشملها» او في مناسبات يسعى فيها المحتفلون لاعادة تصوير المآسي بغاية احداث التطهير الروحي لدى الافراد واحياء فكرة العدل.. وفي انشطة اخرى كثيرة كالمقامات وطريقة تصويرها واحتفالية ادائها. وكل ذلك لا يتشكل ويتجسد الا بحضور المنتج.. «المبدع» والمتلقي الذي اعتبر هذا النشاط حاجة انسانية تغني ثراءه الفكري والحسي.
ان المناخ الفكري ينعكس بوضوح على الحياة العامة للشعوب ويتجسد بمجموع الانشطة العلمية والفنية باعتبارها وليدة استقرار الانسان اينما يكون وتراكم التأمل الفكري والجمالي لديه.. وهذا ما يؤكد ان تلك الانشطة قصدية الفعل ولا تأتي من فراغ او رغبة ولدت هنا او هناك، وانما تأتي كنتيجة حتمية لتراكم معرفي قصدي.. اذ لا يمكن قراءة انشطة المجتمعات من خلال انتاجها المادي.. الصناعي.. الاستهلاكي فذلك أمر كان مستبعد في عصور مضت وهو الآن «في زمن العولمة» وتداخل انشطة الصناعة وانفتاح الاسواق واختصار المسافات امر في غاية التعقيد والتشابك.. وهو ما يؤكد ان المدن «تقرأ من خلال خطابها الثقافي وانتاجها الحضاري» هم المبدع ومساحة الابتكار غير المحدود.
ان خطاب الثقافة والفكر والجمال يعبر بصدق ليس عن مشروع المبدع «كفرد» وانما عن المشروع الثقافي المجتمعي، ويتشكل بمجمل الانشطة المتعددة.. ومنها «المهرجانات».. حيث يجد فريق العمل الفني المساحة اللازمة للاعلان عن خطابهم الفكري وتطور وسائل التجسيد لديهم.. فحين تطفأ المصابيح تباعا.. وتسود الظلمة والصمت.. لا يبقى في المساحة التي تتوهج تدريجيا على منصة المسرح غير عوالم المبدع التي تحمل همه الفكري.. وشغل جيل تداخل مع المبتكر وانصهر معرفيا فيه .. مخاطبة وعي المتلقي.. صورة متعددة القراءات «للمنتج والمتلقي ومناخ الثقافة بشكل عام».
ولا تقف التجربة في مناخ الثقافة بذلك الانتاج وتعدد القراءات.. بل تذهب في المهرجانات الى ما هو ابعد.. الى تأسيس فكرة التنظير للعملية الابداعية.. حيث تولد اجتهادات التأويل.. وتأشير المبتكر.. وتعميق وتأصيل التجربة بذاتها..
ان تأويل التجربة «اي تجربة ابداعية مبتكرة بغض النظر عن منتجها» واخضاعها لحوار فكري.. جمالي، يعتبر واحدا من اهم انجازات التجمعات الفنية وهو مسؤولية جيل كامل وجزء منه كينونته وخطابه الحضاري.
ويأتي مهرجان المسرح - احد الانشطة الابداعية ضمن مهرجان الثقافة والفنون في الجنادرية - ليؤشر تلك الحقائق وليكون ملتقى حضاريا بأبعاد تربوية واسعة الأفق.
تحية لمهرجان التراث والثقافة - الجنادرية - ولمبدعيه.
تحية لمهرجان المسرح .. للجانه.. وللقائمين عليه.. وللزملاء الذين حمل كل منهم خطاب جيله المبتكر.
أمير شمخي الحسناوي
|