|
في وصف للواقعية التقليدية في الأدب يقولون: انها نقل حرفي للواقع، او نقل فوتوغرافي له، في إشارة الى ان الكاميرا لا تفعل أكثر من تجسيد ما هو موجود بالفعل، وأنها لا تضيف شيئاً، أكثر من تسجيل الواقع كما هو، وفي ممارستنا اليومية نتعامل مع الصورة كما لو انها مستودع للذكريات، باعتبارها تجسيداً او تحنيطاً للحظة او مناسبة ما، وبالتالي فنحن نسارع الى حفظ الصورة ضمن ارشيف الصور المزدحم بالذكريات، وكأنما نحاول عبثاً الإمساك بتيار الزمن المتدفق كالماء من بين أيدينا. وبالتأكيد فإن الصورة ليست أكثر من ذلك، طالما كان مصدرها هو تلك الآلة الببغائية، وإن كانت لا تنطق، والتي تكتفي بترديد ما يبوح به الضوء، في حواره الأزلي مع الظل، وطالما أن من يقف وراءها ينظر بعينها هي لا بعينه.ثمة علاقة ما بين القلم والكاميرا، بين الورقة البيضاء وهذا الفضاء الشاسع، ربما الكاميرا تتماهى مع حاملها، وربما يتسلل نبض قلبه من خلال الأصابع التي تلامسها بشغف، الى جسدها، فترتعش ككائن حي، بينما ترصد التفاصيل المهملة في زوايا النسيان، وبينما تقرأ وجه الأشياء، تصغي الى أصواتها القادمة من زمان سحيق، تنفض الغبار عن ملامحها التي يئست من لفت انتباهنا اليها، رغم مرورنا اليومي، وتحديقنا الأبله فيها، وكأنها تنقل الينا ما ليس نراه، تذكرنا بما لم نتذكر، كأنها تكمل شيئاً من انسانيتنا الضائعة بين تفاصيل الحياة الصاخبة. الكاميرا بعين واحدة، وبلا قلب، لكن ثمة من يمنحها عينا إضافية، وقلباً ينبض، ثمة من يؤنسها، وربما هنا الفرق، فالكاميرا هي ذاتها التي يحملها الجميع، لكن الصور التي تستوقف المشاهد قليلة، وربما نادرة، الكاميرا مجرد آلة، مجرد ثقب في صندوق أسود، هكذا قالوا لنا، ومنذ ذلك الوقت مازلنا نتطلع عبر ذلك الثقب، ربما لنبحث عن ذواتنا الضائعة، عن شيء ما نفتقده، لكننا لم نجد شيئاً، ومع مرور الوقت تحولنا الى أسرى داخل الصندوق، لا نستطيع رؤية العالم من حولنا إلا من خلال عينه الوحيدة التي تحرس الظلام، ولا تمرر من الضوء إلا ما يكفي لرؤية أشباح الموت القادم من هناك.اعتقد أن هناك نوعاً من التبعية، في علاقتنا مع الكاميرا، سواء كنا ممن يصوّرون، أو ممن يتصورون، فالمصور يلتزم دائماً بموقعه خلف الكاميرا، ولا يمكن ان يتجاوزه، وقد يسميه البعض إمعاناً في تأكيد تلك التبعية، رجل الكاميرا، وكأنها تزوجته وفق شروطها الخاصة، بينما المتصور فإنه إذا ما أحس بوجود الكاميرا، سرعان ما يفتعل هيئة جادة ورزينة، وكأنه في حضرة السيد المدير قليلون هم الذين استطاعوا التمرد على سلطة الكاميرا، الذين عكسوا شروط تلك العلاقة، خرجوا من صندوقها الأسود إلى فضاء الله الواسع، جعلوها ترى العالم بأعينهم، تنقله ممتزجاً بنبضهم وأحاسيسهم الإنسانية.حمل صالح العزاز كاميرته، فأصبحت تمشي على قدمين، نظر من خلال عدستها فأبصرت الكون بعينه، حدد أبعادها، فأصبحت نافذة على الأزرق المستحيل، ولامست أصابعه أزرارها، فانتقل نبضه الى جسدها.ربما لم تتسع الورقة لأحلام صالح، لم يتسع البياض لرؤيته الحالمة، فخرج الى هذا الفضاء، يحاول ازرقه المستحيل، لكنه كان بعيداً بعيداً.. ربما لن يصل اليه أحد، هذا ما تبوح به الوجوه العديدة، بقايا البيوت القديمة، وأعجاز النخيل، والعديد من الكائنات التي مرّ بها صالح، وربما صافحها، عبر رحلته المستحيلة.رحل صالح، وما زال قاسم حداد، ممسكاً قلمه، يحاول الأزرق المستحيل او المستحيل الأزرق ربما هي العلاقة بين القلم والكاميرا، بين بياض الورقة الذي يستدرج الأصابع الى شرك بعيد، وهذا الفضاء اللانهائي. |
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |