Wednesday 8th January,2003 11059العدد الاربعاء 5 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

المبادرة والرد ! المبادرة والرد !
من أجل شراكة أمريكية - شرق أوسطية
د. محمد بن عبدالله آل زلفة*

من الواضح أن أحداث 11 سبتمبر 2001م تعد بمثابة نقطة تحول كبيرة وخطيرة في أوضاع العالم المعاصر؛ وهي لا تقل عن التحول الذي أعقب الأحداث الكبرى في التاريخ الحديث والمعاصر، مثل التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والجيوبلوتيكية التي أعقبت قيام الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. ولن أدخل في تفاصيل ما أحدثته تلك الثورة في الحقول المشار إليها تواً؛ فهذا واضح ومعلوم لدى دارسي التاريخ والعلوم السياسية والاجتماعية.
والمثال الثاني هو ما أعقب الحرب العالمية الأولى في مطلع العقد الثاني من القرن العشرين، وما ترتب عليها من اختفاء امبراطوريات وممالك، وقيام دول وإسقاط أخرى، وتشكيل جغرافيا سياسية جديدة شكلتها القوى المنتصرة على حساب القوى المهزومة.
والمثال الثالث ما أعقب قيام الحرب العالمية الثانية التي أفرزت قيام قطبين كبيرين هما الولايات المتحدة الأمريكية التي خرجت من هذه الحرب كقوة عظمى حلت محل القوى الأوروبية التقليدية تحمل أيدلوجيتها السياسية والاقتصادية في مقابل القطب الآخر وهو الاتحاد السوفيتي (السابق)، الذي يختلف اختلافاً كلياً عن القطب الأمريكي في التوجه السياسي والنهج الاقتصادي ولكن جمعت بينهما المصالح ضد الدكتاتورية الهتلرية النازية التي كانت تشكل تهديداً لكل من القطبين، ناهيك عن دول أوروبا التي اجتاحتها قوات هتلر، وسقطت واحدة تلو الأخرى.
أعقب هذه التطورات قيام ما يسمى الحرب الباردة بين القطبين المهيمنين على العالم. وانقسم العالم إلى معسكرين، غربي يدور في الفلك الأمريكي، وشرقي يدور في الفلك الروسي؛ وكيان ثالث هش يسمى دول عدم الانحياز. وفي الواقع ما من دولة من تلك الدول التي تدعي عدم الانحياز إلا تدور في فلك أحد القطبين الكبيرين.
ويعد سقوط الاتحاد السوفيتي (السابق)، وتفكك منظومة دوله، وسقوط الأنظمة التي تدور في فلكه تحولاً كبيراً كان من أهم إفرازاته انفراد الولايات المتحدة بصفتها قطباً واحداً يفرض سيطرته على توجيه السياسات العالمية. وليس في الأفق أمل في قيام قطب أو أقطاب أخرى تعادل أو تحدث توازنا يحد من هيمنة القطب الواحد. ووجدت الولايات المتحدة فرصتها في إثبات قدرتها على ممارسة دورها كونها قوة أحادية في حل بعض من المشاكل العالمية، والقضاء على بؤر التوتر أو محدثيه في العالم، سواء بمفردها أو بالتحالف مع دول أخرى كبيرة أو صغيرة لا تستطيع رفض التحالف مع القوة العالمية الوحيدة، وذلك مثل تزعمها أكبر تحالف دولي قادته في تاريخها لإخراج قوات دكتاتور العراق من الكويت التي احتلها في 2 أغسطس 1990م؛ ومثل تدخلها في حل قضية البوسنة والهرسك التي أثبتت دول أوروبا عجزها في إيجاد حل لتلك القضية، ثم قيادة التحالف الأوروبي للقضاء على حكم طاغية ودكتاتور يوغسلافيا سلوبودان ميلوسوفتش، وإخراج قواته بالقوة من إقليم كوسوفو.
هذه الأحداث مكنت الولايات المتحدة من أن تثبت بالدليل القاطع أنها القوة الوحيدة في العالم وبكل جدارة. وهي في قمة الانتشاء بهذا الشعور تفاجأ بما لم يكن في الحسبان؛ وذلك بمهاجمة قوة معادية تضرب مراكز قوتها الاقتصادية والعسكرية وفي عقر دارها بواسطة طائراتها المدنية بما فيها من مواطنيها المسافرين الآمنين، من قبل ثلة من المتطرفين، مدفوعين بقوة تنظيم وراءهم.
هذا الحدث أفقد القوة العظمى صوابها، وجعلها - كردة فعل سريع وعاجل - تصب جام غضبها على قواعد التنظيم الذي وجهت له مباشرة أصابع الاتهام بأنه الذي يقف وراء أولئك المتطرفين، فأجهزت على حكومة حركة طالبان، وقضت على معاقلها في أفغانستان خلال أسابيع قليلة. أما استراتيجيتها طويلة الأمد، فهي محاربة الإرهاب كظاهرة تستهدف في الدرجة الأولى أمريكا ومصالحها أينما كانت، وكل القوى التي تعتقد أنها تدعمه أو لها دور في تغذيته أو تشجيعه أو إيوائه.
ومن ضمن الإعداد لهذه الحرب الطويلة مع الإرهاب سخرت مراكز أبحاثها ومستشاريها في تقصي أسباب ظاهرة الإرهاب، خاصة المنطقة التي حددت أنها منابع الإرهاب، وبشكل محدد منطقة الشرق الأوسط، والدول العربية منها على وجه الخصوص؛ وحددت أسباباً بعينها، لكنها أهملت الإشارة إلى تحديد أهم الأسباب الذي هو عطرسة الوجود الصهيوني، وما يحدثه من ممارسات يومية للإرهاب ضد شعب أعزل سلبت وطنه بطريقة إرهابية لا تقل فظاعة عما أحدثه إرهابيو نيويورك وواشنطن. هذه الممارسات الإرهابية اليومية لم تتحرك القوة العظمى والداعمة له حتى لإعلان شجبه، دعك عن التهديد بالتوقف عن دعمه عسكرياً واقتصادياً.
ولأجل هذا اعتقدنا أن أحداث 11 سبتمبر تعد تحولاً هاماً في مسار التاريخ العالمي، استغلته القوة الوحيدة في العالم لتشكيل خارطة سياسية جديدة لهذا العالم الذي تنفرد بالسيطرة على مقدراته الامبراطورية الأمريكية. ومن الأسباب التي تعتقد الولايات المتحدة أنها من بواعث الإرهاب المشجعة عليه انعدام العدالة، وغياب الديمقراطية، وسيادة الأنظمة الدكتاتورية وهيمنة قوى التعصب على توجيه التعليم ودورها في وضع مناهج تحث على الكراهية ومعاداة الآخر، والحث على إعلان الجهاد عليه.
ومن أجل القضاء على هذه المسببات تبنت الولايات المتحدة الأمريكية تدابير كثيرة من ضمنها مبادرتها التي أعلنتها على لسان وزير خارجيتها كولون باول والتي هي في شكلها ومضمونها موجهة وبشكل محدد للدول العربية والإسلامية.
وأهدافها في شكلها الظاهر تحمل طابعاً حضارياً أعتقد أنه سيقابل بالترحاب من قبل الطبقة المثقفة في المنطقة التي تتطلع إلى غد أفضل، تحكمه أنظمة حكم معتدلة تؤمن بالديمقراطية والتعددية، وحق الجميع في المشاركة، وتحقيق العدالة الاجتماعية والحرية الفكرية والدينية والسياسية، ضمن ضوابط وظروف كل مجتمع لأن هذه مطالب أصبح الجميع يتطلع إليها بصفتها حقوقاً طبيعية للإنسان. ولكن أن تأتي هذه الدعوة من الولايات المتحدة وفي هذا الوقت بالذات الذي فيه يرى كل مواطن عربي ما تقوم به إسرائيل ضد الشعب العربي الفلسطيني وبدعم وتأييد تام من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، يجد كل عربي - حتى شريحة المثقفين منهم، الأكثر انجذاباً إلى هذه الأفكار والمضامين البراقة - تردداً في قبول هذا العرض الأمريكي. الذي لم تعرفه شعوب هذه المنطقة عن الولايات المتحدة هو سياستها المغايرة تماماً لما تدعو إليه ورقة المبادرة؛ فلماذا هذا التغير في السياسة الأمريكية وبهذا الشكل غير المعتاد؛ هل هو إلهاء لشعوب المنطقة، وصرفها عن التفكير فيما تخطط له الحكومة الأمريكية من مستقبل سياسي للمنطقة وهو الجانب الخفي وراء إصدار هذه المبادرة. ويبدو أن هذه المبادرة الأمريكية هي إحدى وسائل التذرع للتدخل في الشؤون الداخلية لبلدان المنطقة، واستغلال عدم قيام حكومات هذه البلدان باتخاذ المبادرات لإحداث الإصلاحات التي تتطلع إليها شعوبها، وهذه إحدى مآسي حكومات المنطقة التي لا تبادر بتنفيذ ما تتطلبه المراحل من إصلاحات حتى تجد نفسها مجبرة عليه، وغالباً ما يكون متأخراً وبعد إعطاء الآخر الذرائع للتدخل. ومثال على ذلك حكومة صدام حسين التي ظلت سياستها تنتهج وتيرة واحدة لمدة تربو على ثلاثة عقود من القهر والإذلال للشعب العراقي، وتوجيه موارده لحروب أقحم بلاده وبلاد المنطقة المحيطة في اتونها، فأكلت الأخضر واليابس.
ما لم تقم الحكومات العربية والإسلامية بإحداث إصلاحات جذرية في وسائل التعامل مع شعوبها، من خلال الحوار، وفتح الأبواب لنسيم الهواء النقي، والمناخ الصحي لإجراء هذا الحوار، وعلى جميع المستويات، وفي جميع القضايا، بحثاً عن حلول لإشكالات أصبحت تهدد نسيج الوحدة الوطنية، لهذه البلدان، والأمن الاجتماعي مثل تفاقم ظاهرة البطالة والفقر، وتوقف عجلات التنمية أمام قلة الموارد أو عدم إدارتها بشكل صحيح، وتنامي أعداد السكان، وزيادة متطلباتهم من صحة وتعليم، وطرق وسكن وغير ذلك؛ إذا لم تبادر حكومات المنطقة إلى التعامل مع متطلبات الإصلاح بمعايير نابعة من ذاتها، ومن معرفتها لظروفها، ومقومات ثقافتها، وإشراك كل ممثلي شرائح المجتمع في عملية الإصلاح، فإن الشعوب أمام التحديات المجتمعية والمعيشية قد تجد ما يغري بقبول المبادرة الأمريكية، وهذا ما لا نريده لشعوبنا ومجتمعاتنا؛ نحن لا نريد أن تفرض عليهم معايير الإصلاح وقيمه من الخارج.

* عضو مجلس الشورى

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved