منذ توحيد المملكة العربية السعودية 1351ه وحتى عام 1370ه 1950م ظل الجهاز الإداري في المملكة محدوداً فلم يكن هناك سوى ثلاث وزارات هي: وزارة الخارجية، وزارة المالية، ووزارة الدفاع، التي انشئت عام 1350ه 1930م 1352ه 1932م/ 1364ه 1944م على التوالي.
وكانت الخدمات التي تقدم للمواطنين محدودة بسبب ذلك بقي الهيكل الإداري بسيطاً فلم يتعد موظفو الدولة عدة مئات دون أي لوائح وتوظيف أو تدريب، وذلك أمر معتاد يتفق مع مرحلة التكوين.
وبحلول عام 1370ه 1950م زاد إنتاج النفط أكثر من نصف مليون برميل يومياً أي بنسبة 1000% مما جعل الخدمات الحكومية أكثر تعقيداً، ولم تتمكن الوزارات الثلاث الموجودة آنذاك من مواجهة التحديات والاحتياجات المتنامية، نتيجة لذلك تم تجميع المصالح ذات الوظائف المشابهة في وزارات مستقلة.
إلا ان البنية الإدارية وعدد موظفي الدولة والأنظمة الحكومية ما لبثت ان تنامت بدرجة فاقت التوقعات بفضل الله ثم بتتابع نعم الله على هذه البلاد بالزيادة في إنتاج النفط وأسعاره وبالإرادة الصادقة والحكيمة من لدن قادة هذه البلاد لتنمية هذه الدولة وقطاعاتها المختلفة وتحديث الجهاز الحكومي فيها في تنمية مرحلية متوازنة لضمان تقديم الخدمات المطلوبة المناسبة لرفاهية المواطن فتعاقبت خطوات التنمية الإدارية وصدرت الكثير من الأنظمة واللوائح الإدارية لتسيير هذه الأجهزة فتزايد عدد الوزارات حتى وصل في وقتنا الحاضر إلى أكثر من إحدى وعشرين وزارة وعشرات الهيئات والمؤسسات المستقلة وشبه المستقلة، فأصبحت هذه المنشآت الحكومية تقوم بالدور المنوط بها لتنفيذ البرامج المرسومة لها في خطط التنمية الطموحة والمتتابعة، إلا ان المملكة العربية السعودية كغيرها من الدول النفطية تواجه في وقتنا الحاضر بعض المصاعب المالية الناتجة من انحسار وتذبذب أسعار المورد الأساسي للدخل القومي والموجه الرئيسي لاقتصاديات البلاد.
لذا فهي تواجه بعض المعوقات الإدارية المشابهة لمثيلاتها من الدول النفطية التي وضعت خططاً تنموية طموحة وأصبحت تعاني من المصاعب الناتجة عن الفجوة المتسعة بين التطلعات والإنجازات نفسها وعلى الرغم من الدور الكبير والمؤمل من القطاع الخاص في الكثير من تلك الدول التي انتهجت سياسة اقتصاد السوق الحر المفتوح «والمملكة العربية السعودية من أوائل هذه الدول» رغبة في تنويع مصادر الدخل والابتعاد عن الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للدخل القومي وعلى الدولة كموظف رئيسي للقوى العاملة وذلك باعطاء القطاع الخاص دوراً مهماً وعدّه شريكاً للدولة في التنمية والعمل على إعداده لقيادة المسيرة التنموية المستقبلية للبلاد، كما جاء في خطة التنمية السادسة للمملكة العربية السعودية، فإن الجهاز الحكومي في البلدان النامية «وفي ظل قطاع خاص غير قادر على التفرد بأعباء تنموية كبرى دون دعم وتوجيه مستمر من قبل القطاع العام في هذه الدول التي تمر بمرحلة انطلاق تنموي حثيث كما هو الحال في المملكة العربية السعودية» سوف يستمر في دوره الموجه الرئيسي لتنفيذ الخطط التنموية.
وقد أشارت نشرة مطبوعة للأمم المتحدة بوضوح إلى ان الكثير من الدول النامية نتيجة لعوامل اجتماعية واقتصادية قد التزمت بتوفير مناخ مناسب ودور كبير للقطاع الخاص، كما أعطت في الوقت نفسه دوراً متنامياً للأجهزة الحكومية فيها، لذا شهدت هذه الدول التي تنتهج فلسفة اقتصاد السوق توسعاً عظيماً لخدماتها العامة، كما ان هذه السياسة ليست مقصورة على الدول النامية، فها هي الولايات المتحدة الأمريكية وهي معقل الرأسمالية قد شهدت في عصر الرئيس روزفلت في أثناء الإصلاحات الاجتماعية والإجراءات الاقتصادية التصحيحية لانتشال الاقتصاد الأمريكي من فترة الركود نمواً كبيراً في جهازها الحكومي مما يؤكد أن هناك علاقة مباشرة بين طبيعة النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية وبين تنامي الجهاز الحكومي(1).
والمملكة العربية السعودية التي تنتهج سياسة اقتصادية وإدارية راشدة ومتوازنة تدرك الدور المهم الذي يجب ان يلعبه القطاع الخاص في مسيرة التنمية، كما تدرك الدور الرائد للجهاز الحكومي في مساندته لهذا القطاع وبالتالي الوصول إلى مرحلة التكامل المنشود، كما جاء في لقاء لخادم الحرمين الشريفين مع أبنائه الطلاب في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن قبل عدة سنوات بأنه ليس هناك قطاع خاص وقطاع عام وإنما قطاع واحد يخدم هذه البلاد، وقد أكدت خطة التنمية السادسة ذلك حيث جاء فيها ان «الحقائق التاريخية اللافتة للنظر تعاظم دور الحكومة التنموي وزيادة الانفاق الحكومي خلال فترات خطط التنمية الثانية والثالثة الذي ساعد بشكل أساسي على تكوين وتبلور الملامح الاقتصادية للقطاع الخاص حيث اقتحم أنشطة الصناعة والزراعة والصحة والنقل والتشغيل والصيانة بنجاح كبير مما يدل على وجود علاقة تكاملية بين القطاعين الحكومي والخاص بعكس الافتراض القائل بوجود تناقض مبدئي بينهما»(2).
إلا ان تعزيز وضمان استمرار فاعلية هذا التكامل مرهون بالمراجعة الدورية لنتائج هذا التوجيه وادخال الاصلاحات الضرورية اللازمة على الأنظمة الحكومية ذات العلاقة بأنشطة القطاع الخاص وكذلك بمراجعة اللوائح والأنظمة الخاصة بالأجهزة الحكومية وإعادة هيكلة بعضها بما يتناسب مع توجه الدولة لتبوء القطاع الخاص دوره التنموي المنشود متى ما دعت الحاجة وذلك بإعداد الجهاز الحكومي لمرحلة قادمة تتميز بكفاءتها وعلميتها الإدارية وتحولاتها الاقتصادية التي سوف يجبر فيها القطاع الحكومي على تبني فلسفة القطاع الخاص في إدارة تلك الأجهزة لتتمكن من فهم لغة المرحلة القادمة.
من هنا جاء إنشاء وزارة الخدمة المدنية نتيجة طبيعية لخطوات التنمية الإدارية المتتالية في أجهزة الدولة التي هي عملية مستمرة في مسيرة البناء في هذه البلاد نتج منه رفع مستوى هذا الجهاز المنوط به تنظيم عملية التوظيف في القطاع الحكومي أملاً في ان يمارس دوراً جديداً يسهم اسهاماً فاعلاً في تطوير القطاع الحكومي والعمل على تحديث أساليب العمل ورفع مستوى الموظف الحكومي للوصول بالجهاز الحكومي إلى مستوى يعزز مكانته للقيام بالدور الجديد المنوط به آخذاً في الحسبان التحولات الاقتصادية والمعلوماتية في عالمنا المعاصر ومواجهة المرحلة المقبلة برؤية شمولية قادرة على تعزيز مكانة المملكة الاقتصادية والسياسية وقدراتها الإدارية.. لذلك يتمنى الكثير ان تقوم وزارة الخدمة المدنية بالتالي:
1) التحرر من دورها التقليدي الموروث من ديوان الخدمة المدنية «وإن كان مسمى الخدمة المدنية مازال يلازمها» والنظر بشمولية أكثر للقطاع الحكومي «بأنظمته وكتبته وموظفيه.. الخ» ودوره المستقبلي في التنمية والاقتصاد.
وفي نظري ان الجهاز الحكومي المستقبلي لأي دولة ينتهج سياسة حرة في اقتصادها ويعمل على تخصيص مرافقها العامة إذا لم يتسلح بفلسفة القطاع الخاص في الإدارة ويعي مفرداته، كالترشيد، الكفاءة في الإنتاج، الاستغلال الأمثل للموارد البشرية والمالية، الانضباط في الوقت والعمل.. الخ.. سوف يمثل عبئاً إضافياً على تلك الدولة ويكون محبطاً لتطلعاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
3) قيام وزارة الخدمة المدنية بدور الموجه لكل ما من شأنه تحسين الأداء الحكومي سواء أكان ذلك بتمثيل هذا القطاع وثقل همومه في مجلس الوزراء أو من خلال العمل على استيعاب اختصاصات الخدمة المدنية الموكلة إلى بعض الأجهزة الحكومية المعنية التي تتداخل في صلاحياتها مع هذه الوزارة كمثال على ذلك:
الإدارة المركزية للنظم والإدارة التابعة لوزارة المالية ولجنة الاصلاح الإداري والأنظمة المالية في الدولة والعمل على تحسينها وتطويرها مما سينعكس ايجاباً على العمل الحكومي.
3) ممارسة الدور الإشرافي على الأجهزة الحكومية لتطوير أدائها مع مراعاة الخصوصية الفنية لكل جهاز عند الشروع في برامج التطوير.
4) تغيير الكثير من المفاهيم العالقة في ذهن الموظف الحكومي ونظرته الدونية للقطاع الخاص بغرض رفع مستوى الوعي لدى القطاع العام بأهمية القطاع الخاص وشراكته في مسيرة التنمية.
5) العمل على تبني كل ما من شأنه رفع مستوى التنسيق بين الجهاز الحكومي والقطاع الخاص للوصول بهما إلى مرحلة التكامل في إعداد الكوادر الوطنية القادرة على إدارة هذين القطاعين.
6) تبني دمج نظامي التقاعد الحكومي مع نظام التأمينات الاجتماعية لاعطاء القوى العاملة المرونة الكاملة في التنقل بين القطاعين مما سيثري العمل والعاملين في كلا القطاعين.
7) فتح قنوات اتصال دائمة مع القطاع الخاص لايجاد آلية مشتركة بين القطاعين لاستيعاب توظيف خريجي الجامعات وتدريب القوى العاملة في كلا القطاعين وخاصة في مجال التدريب على رأس العمل وتبادل الخبرات.
8) ادخال التحسينات اللازمة على برامج تدريب الموظفين الحكوميين لتشمل دورات ومواد أقرب ما تكون لفلسفة القطاع الخاص في الإدارة والقائمة على الكفاءة في الإنتاج وخفض التكاليف والمرونة في العمل.. الخ.
والله من وراء القصد.
1) Abdul Rahman Osman (saudia arabia: an unprecedented Growth of wealth with an Unparalleled Growth of Bureaucracy).
International Rview of Adm. Sciences, vol.5 1979.P. NO3.
2) خطة التنمية السادسة 1415 1420ه وزارة التخطيط المملكة العربية السعودية ص153.
|