Tuesday 7th January,2003 11058العدد الثلاثاء 4 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الأستاذ أحمد بن علي المبارك في الذهن إن غاب وإن حضر الأستاذ أحمد بن علي المبارك في الذهن إن غاب وإن حضر
د. عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر

إذا اتصلت بالعالم استفدت من علمه، وإذا اتصلت بالمثقف أفادك من واسع اطلاعه، وإذا اجتمعت بالأديب ملأ سمعك وقلبك بالبهجة، فأنت معه في روض يانع من أزاهير الأدب وأفنانه:
يملأ كل واحد من هؤلاء وقتك بما يبهج، ويشبع نفسك بغذاء نافع؛ يهديك ما يفيد؛ ويمتعك بما يحسن ويجمل. لا تعدم، في كل مقابلة مع صاحب العقل والفكر، أن تخرج بقول صائب، أو رأي سديد، تضيفه الى ما قد يكون عندك من حصيلة، أو تبدأ به حصيلة جديدة.
أشعر بهذا كلما تذكرت جلساتي مع الزميل الأخ الأستاذ أبي مازن، أحمد بن علي المبارك، عندما كنا طلابا في مصر. كان هو متقدما في سنوات الدراسة في كلية اللغة العربية في الأزهر، وكنت مبتدئاً دراستي في كلية دار العلوم بجامعة الملك فؤاد حينئذ. وكان بيننا ود مشترك - ولا يزال - ناتج عن تقدير مني لفضله وعلمه، ولا غرابة في هذا، فهو من بيت علم، ومن أسرة كريمة كل رجالها علماء أدباء. وأبومازن أضاف الى ما غرفه من بحر علم آبائه، واكتنزه من مخزون فضائلهم، ما حصله في دراسته في الأزهر، وما توافر له من مطالعاته الحرة خارج المنهج القوي المتميز، الذي كانت تشتهر به كليات الأزهر حينئذ.
** كنت استمتع بالانصات والاصغاء لأحاديثه الأدبية التي يرويها لغيره أو لنفسه، سواء كان ذلك نثراً أو شعراً، قصة أو حكمة، مثلا أو طريفة من الطرائف، أو شاهداً من شواهد النحو أو البلاغة، مجلسه في ذلك لا يُمل، فطريقته مشوقة، وما يأتي به مختار منتقى، وكان - حفظه الله - فارساً مبرزاً سابقاً في المناظرات والمسابقات في المسامرات التي كانت تعقد. وكنت دائما أجد الطريق، في مجالسنا الخاصة، الى مفاتيح صناديق أدبه التي امتلأ به صدره. وكان يروق لي أحيانا أن أجلس تلميذاً مصغياً الى انشاده لاحدى قصائده، فأجد متعة كاملة، وفائدة قصوى من الاستماع مثلا الى قصيدته التي يرثي بها والده، وهي من عيون الشعر، وتكشف - بحق - عمق الأبوة والبنوة، وقوة الاحساس بالفقد، مع نصاعة في العبارة، وتسلسل في الأفكار، بأسلوب أخاذ، تزيد اطلالة العاطفة منها اشعاعا إذا ألقاها بصوته المؤثر، وأشبعها بنبرات حزينة، تظهر حرارة الحرقة التي أملتها.
** أتذكر الأستاذ أحمد دائماً عندما أرى الاجادة في بعض النصوص من التراث، وكنت قد سمعتها منه قبل ان أقرأها في كتاب. وكان ينفعل بحادثة ما فيستشهد لها بقول أو مثل أو بيت، فيأتي الاستشهاد في محله، وكأنه قيل عن هذه الحادثة، وأنُشىء أصلا لها، ولهذا المشهد بعينه. وهذا دليل على نضج متكامل في ملكة الأدب، واحساسه فيه، وعلى مقدرته الفائقة على استدعاء المخزون عنده، والرف الذي وضع عليه.
وكانت «دفعتنا» من البعثة جاءت الى مصر عام 1365هـ، بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، فكانت المساكن شحيحة، وكان مدير البعثة حريصا على أن يكون محل سكنانا قريباً من مبنى مقر البعثة الأساسي في الروضة، فلم يجد إلا شقة «حرب» ألحقت في زمن الحرب فوق عمارة قائمة من قبل، فجاء سقفها مبنياً على بعض « دوامر» الخشب، فكانت الصيانة لهذا مستمرة فيه، ولم يكن يستغني عنها أبداً؛ فالسباكة ملازم لها الخلل، والكهرباء دائمة الانقطاع. وأذكر أني لاحظت يوما ان «الساكف» «الجسر» الحامل لجزء السقف الذي فوق سريري قد انهصر عليَّ، وينذر بالخطر، فلفت لهذا نظر الرجل النبيل الأستاذ عمر رفيع - رحمه الله - وكان حينئذ يقوم بجولة، ويتفقد الشقة، وكان مساعداً لمدير البعثة إذ ذاك.
وكان يحاول - رحمه الله - أن يهون من بعض الأمور التي كنا نحاول نحن تجسيمها وتهويلها وتضخيهما، أملاً في أن نحصل على مرادنا تجاهها، فقال:«لا تخف إذا سقط السقف فعليَّ» فقلت له: «ولكني - يا أستاذ - أنا الذي أنام تحته» فضحكت جوقة الطلاب التي ترافق الجولة، فالتفت - رحمه الله - وشارك في الضحك.
وفي جولتنا مع الأستاذ عمر - رحمه الله - وابراز مظاهر شكوانا، والسير عليها واحدة واحدة، دخل أبومازن شقتنا زائراً، فانضم الينا، ومشى معنا، فوصلنا في التفقد الى حوض غسيل الأيدي، فإذا هو قد طفح، وسال منه الماء الى الأرض، نتيجة انسداد لم يكن يفارقه إلا ليعود بشوق إليه، فعلق الأستاذ أحمد على هذا المنظر بقوله:
امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويداً قد ملأت بطني
فظننا - لصدق الوصف ، ومطابقته للواقع - أن الأستاذ أحمد قد نظمه في تلك اللحظة، وأنه ابن الساعة، ومن وحي المنظر، ولكنه أخبرنا أن هذا بيت قديم من شواهد النحويين. ولم تمض إلا مدة يسيرة حتى صافحت عيوننا - نحن دارسي النحو في دار العلوم - هذا الشاهد في كتاب الأشموني.
وهذا مثل من أمثلة سرعة استدعاء أبي مازن لمخزونه من الشعر، وحسن اختيار المناسب منه، المطابق لما جيء به من أجله، كأنه مفصل لهذا المنظر، أو تلك الحادثة.
** أجل أتذكر أبا مازن كلما مر بيت سبق أن سمعته منه، أو حكمة سمعته يتمثل بها، أو نثر اختاره بمناسبة ما، وأذكره كثيراً عندما يستدعي الأمر أن استنجد بكلمة «لكل داخل دهشة» فقد دخل أبومازن يوما مجلسا مليئا باخوانه وزملائه الطلاب، وكنت معه، ثم تبين له أنه لم يتنبه لأحدهم مع أهميته له وتقديره، فاعتذر له، وقال:«إن للداخل دهشة». وقد رسخت هذه الكلمة في ذهني. وقد صدق في هذا القول، فالداخل أحيانا لا يرى إلا بعض من في الداخل، لأن عينه تروغ في العدد الموجود، وقد تخطىء من لا يجب أن تخطئه في النظرة والاعتبار. وهذه الكلمة قد يشترك فيها الداخل، والمدخول إليه: هذا يعتذر بها، وهذا يسبقه أحيانا، فيقولها، إقراراً منه بصدقها. ولطالما سمعتها بعد ذلك، لأن الموقف لها يتكرر.
وقد تذكرت الأستاذ أحمد عندما رأيت هذه الجملة مكتوبة في ترجمة الجاحظ في معجم الأدباء، وقد جاءت في قصة طويلة طريفة، اجتزىء منها هنا ما يخص استشهادنا:
... قال أبوخلف سلام بن زيد «عن رحلته من الأندلس لطلب ما عند الجاحظ من الأدب»:
«.. فخرجت لا أعرّج على شيء، حتى قصدت بغداد، فسألت عنه، فقيل: هو بسرّ من رأى» فأصعدت اليها، فقيل لي: قد انحدر الى البصرة، فانحدرت اليه، وسألت عن منزله، فأرشدت، ودخلت اليه، فإذا هو جالس وحواليه عشرون صبياً، ليس فيهم ذو لحية غيرُه، فدهشت، فقلت: أيّكم أبوعثمان؟ فرفع يده وحركها في وجهي، وقال: من أين؟ فقلت من الأندلس. فقال: طينة حمقاء، فما الاسم؟ قلت: سلاّم، قال: اسم كلب القَّرَّاد. ابن من؟ قلت: اين يزيد. قال: بحق ما صرت، أبو مَن؟ قلت: أبوخلف. قال: كنية قرد زبيدة. ما جئت تطلب؟ قلت: العلم. قال: ارجع بوقت، فإنك لا تفلح.
قلت له: ما أنصفتني، فقد اشتملت على خصال أربع: جفاء البادية، وبعد الشقة، وغرَّة الحداثة، ودهشة الداخل. قال: فترى حولي عشرين صبياً ليس فيهم ذو لحية غيري، ما كان يجب أن تعرفني بهم؟ قال: فأقمت عليه عشرين سنة»(1).
ونص آخر وردت فيه كلم: «للداخل دهشة» وهي في ترجمة المبرد «محمد بن يزيد الثمالي» في معجم الأدباء(2).
قال المبرد:«.. صرت يوما إليهم (المجانين)، فمررت على شيخ منهم، وهو جالس على حصير قصب، فجاوزته الى غيره، فقال: سبحان الله تعالى أين السلام؟ من المجنون أنا أو أنت؟ فاستحييت منه، وقلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال: لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا حسن الرد، على أنا نصرف سوء أدبك الى أحسن جهاته من العذر، لأنه كان يقال: «إن للداخل على القوم دهشة، اجلس - أعزّك الله تعالى - عندنا».
ويروى عن ابن عباس عن طريقين قولان عن الداخل ودهشته:
قال أبوصالح عن ابن عباس:
«ما من داخل إلا وله حيرة فابدؤوه بالسلام، وما من مدعو إلا وله حشمة فابدؤوه باليمين»(3).
وقال ابن عباس أيضاً:
«إن لكل داخل دهشة فآنسوه بالتحية»(4).
وورد في حديث للمبرد رواه عن المازني في مثل هذا:«.. لأنه كان يقال: إن للداخل على القوم دهشة»(5).
هذا قليل من كثير يجعل أبا مازن في الذهن إذا غاب، وفي العين إذا حضر، وفي القلب غاب أو حضر.

1- معجم الأدباء 16/105 = 2- ص 19/115 = 3 - الامتاع والمؤانسة 3/77 = 4- البيان والتبيين 2/91 = 5- ترهة الألباء 147

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved