Tuesday 7th January,2003 11058العدد الثلاثاء 4 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

رهان (الحداثة) بين التجلِّي والتولِّي! رهان (الحداثة) بين التجلِّي والتولِّي!
د. حسن بن فهد الهويمل

بعض الدارسين والنقاد والمحاضرين والمؤلفين المناوئين للحداثة يقطعون بأنها اضمحلت تحت وابل الضربات المسددة، وكل الشامتين يقوم رهانهم على ان توليها مرتبط بغياب من كانوا تحت رايتها ملء سمع المشاهد وبصره، فيما يقولون، وفيما يراهنون عليه من غلبة واستفاضة لقيمها: الفنية واللغوية والدلالية.
وبعض المتفائلين الظانين بها ظن السوء أخلوا ثنياتهم، وهبوا لجمع «مخيال» الغنائم التي خلفها لهم الوهم، مصوراً لهم ان الحداثيين تركوا فلولها في ساحة الوغى، مثلما فعل الرماة في «أحد»، وهم يحسبون ان الذين اغثونا بادعائها في مشاهدنا المحلية هم خاصتها وعيبتها وسوادها الأعظم، وان انطفاءهم مؤذن بانطفائها في كل بقاع الأرض الواسعة، والتأسيس النقدي على ان الحداثة والحداثيين أصبحوا خبراً بعد عين تأسيس على جرف هار، ذلك ان الذين لم يتقوا الشبهات بادعائها ممن اعطوا الدنية في ثوابتهم لأساطينها الضالعين فيها شرذمة قليلة، لا يقدمون، وقد لا يؤخرون، ولا يدق تمييزهم بين المحظور والمباح في سائر العوالم: الدينية والأدبية والاجتماعية، وكل ما يوصفون به انهم سماعون لسدنة الحداثة، ممن ينظرون إليهم نظر المزدري، لعلمهم بأن هذه النوعية غوغاء، لا يضيفون شيئاً، لأنهم لا يملكون خيلاً يهدونها ولا مالاً يعطونه، ولا منطقاً حسنا يعوضون به إقواءهم المعرفي، حين لا تسعدهم المعارف ولا تسندهم الآليات، وكل الذي يؤدونه ان يذكروا عند أربابها بما لم يفعلوا، وغياب مثل هؤلاء أو بياتهم الشتوي، لا يحفز على تداول القول في تخلف الحداثة عما سواها من الظواهر، فضلاً عن القطع بذهابها.
و«الحداثة» التي نقف في وجهها، ونتقرب إلى الله بالتصدي لمعتنقيها باقية، متنامية، متعددة المواقع والقضايا والظواهر والمفاهيم، وتجذرها في المشاهد الغربية وأثرها في الرؤى والتصورات والمواقف من المسلمات التي لا مجال للتشكيك فيها، وكيف يبشر الناقمون بزوالها، وهي قائمة في الإبداعات السردية والشعرية وفي النقد، حاضرة في الصحف والمجلات والكتب والمنتديات، مؤثرة على «اللغة» و«الشرط الفني» و«القيم الدلالية» شائعة كالوباء في الفن والفكر والأخلاق، لها حماتها من النقاد والدارسين، ولها أشياعها من القراء والكتاب، ولها مجالاتها في الصحف والمجلات والكتب والروابط والنقابات والمؤسسات والقنوات، والمتابع الواعي لا يغتر بخلط الأوراق، فالحداثة مصطلح مصنوع، والتجديد مصير محتوم، ومع اننا نتصدى لفيوضها لا يجرمنا شنآن أقوامها على ألا نقول الحق، فيما أحدثوه، وفيما أضافوه من مناهج وآليات في مجال النقد، ومن عمق دلالي وتألق فني في مجال الإبداع، فأصحاب المواهب والمثقفون من الحدثيين استطاعوا ان يتركوا أثراً عميقاً، لا ينكره إلا مغالط، ثم ان الموهبة والاقتدار والثقافة إمكانيات ذاتية، لا ترتبط بمذهب، ولا تختص بنحلة. والرسول صلى الله عليه وسلم عرف لخصومه حقهم واقتدارهم، ولهذا دعا ربه ان يعز الإسلام بأحب «العمرين» إليه: «عمرو بن هشام» و«عمر بن الخطاب» وهما إذ ذاك، كافران يكيدان له وللإسلام وللمسلمين، فهدى الله ابن الخطاب رحمة، وأضل أبا جهل عدلاً، فأساطين الحداثة على جانب من المواهب والإمكانيات المعرفية، وليس كذلك الغثائيون والزبد الذين ينقُّون كما الضفادع، ثم لا يُسمنون ولا يغنون من جوع، وكل أقلية منبوذة تكرس جهدها، وتشرعن له بإعداد القوة والسيطرة على مجالاتها من علم وإعلام ومال، والذين يودون معرفة أحوال الحداثة الفكرية ومحاكمة ذويها بعدل وانصاف ومعرفة، عليهم ان يضعوا في اعتبارهم عدة اشكاليات، لعل من أهمها:
الأول: المفهوم.
الثاني: المجال.
الثالث: الاقليمية.
الرابع: الادعاء.
وما يتناسل منها من اشكاليات مربكة، ولست على يقين من حسم هذه الأمور في الوقت المنظور، وما انا ممن يربطون بين الكُموُن والذهاب، ولا مع الذين يحسبونها ماثلة في الذوات دون الواقع، ولا مع الذين يقصرون أحكامهم على مدها وجزرها الاقليمي، ذلك ان اجواء بعض الاقاليم ليست ملائمة لحداثة الفكر، وان تهافت عليها من لا يلوون على معرفة، ولا يخافون على سمعة، ولا يفرقون بين الجمرة والتمرة، وبعض المتهافتين على الطوارئ لا تسبقهم المسابير ولا المجسات، ولا يقيسون قبل ان يغوصوا في أعماق المستجدات، فهم أشبه بالفراش، يتهافتون على اللهب ليحترقوا، ولهذا لا يجدون معرة في التحول السريع.
والتعالق مع أي قضية يكتنفها الغموض، وتناسل مفاهيمها يحول دون كف الغيبة عن النفس، وحين تتقطع بمثل أولئك الأسباب، يحصرون مفهوم الحداثة عند حد التجديد والتغيير والطفرة، والمتحدث في أي قضية فكرية أو أدبية مشتركة بين حضارة وأخرى لم تتحرر عنده: تاريخاً وموطناً ومفهوماً ومرجعية وتحولاً، يأتي بالعجائب، ويكشف عن قدرة إنشائية، لا تلوي على ثقافة، ولا على معرفة، ولا تقول شيئاً، وبعض السرعان من هؤلاء الأشياع والأتباع يصلون بخفتهم وتقلبهم في المذاهب حافة البهلوانية، فيكثر نظّارهم، ويرتفع من حولهم المكاء والتصدية، ويختلط الأمر على المتابعين لهم، فكل ما يقولونه يدل على ان المعرفة لما تدخل في قلوبهم، إذ لم يكونوا بالمؤصلين، ولا بالصابرين على لأواء المغالبة، وتقصي القضايا، وتحقيق الإيمان الذي يطمئن معه القلب، وتسكن عنده الجوارح. وبين «المتحدثنين» و«المتعالقين» تأتي طوائف أخرى، تتوهم انها على فهم دقيق بمجريات الأحداث الفكرية والأدبية، حتى إذا فُزِّع عن قولهم، تجلى الزيد المجفو، وظهر الرجم بالغيب، فالمبادئ والمذاهب والمناهج والآليات لا يكفي تلقفها من وسائل الإعلام، ولا من ثقافة السماع، بل لابد من تقصيها من تخومها، والوصول إليها في مطارح أهلها، ورصد الأجواء الفكرية لمنشئها، والتعرف على جذورها الفكرية وتحولاتها المقصدية، ومراحل تقاطعها مع التيارات، وتنقلها بين المبادئ والمذاهب، وما يلقى مثل ذلك إلا الصابرون، أما الراكضون في ركابها: تبعية وإمعية، وان اشتعلت رؤوسهم شيباً، ووسدت بعض الأمور إليهم، فقد تعوزهم المعرفة، وتنقصهم الأهلية، والمشاهد العربية تنوس بها نكرات ومعارف: مقتدرون وادعياء، وتطفو في مشاهدها مذاهب وآليات ومناهج، و«الحداثة» تتسع لهؤلاء وأولئك، فآليات النقد اللغوي الحديث ك«البنائية» و«التحويلية» و«التفكيكية» نسلت من أحداب كثيرة، ولك ان تقتفي أثر «البنائية» وتقلبها في العلوم، وهي: آلية، وتصور، وفرضية، لها جذورها الفلسفية، وبوادرها الضاربة في عمق التاريخ الفكري واللغوي والأدبي والاجتماعي والنفسي والاقتصادي وسائر المذاهب، وسوف تقف من هذا الاقتفاء على العجب العجاب، والذين التقوا بها، أو تقاطعوا معها على أي صعيد من هذه الصعد يتصورونها من خلال ذلك المجال، وليست لدى بعضهم القدرة ولا الإمكانيات التي تساعدهم على ملاحقتها في كل حقل معرفي، ومثلهم في ذلك مثل «العميان» الذين جمعوا حول «فيل» ليتمكنوا من تصوره، فكل واحد منهم تقرّاه بلمس، كما صورة انطاكية التي راعت المتلمس، وحين اجتمعوا لتحديد تصورهم له، أتوا بالمضحكات، وانفض سامرهم دون اتفاق، ولو انهم أبصروه لما اختلفوا، وهكذا «البنيوية» نظر إليها اشباه «أم الحليس» مثلما تلمس «العميان» جوانب «الفيل»، ويقال عن «الحداثة» و«العولمة» و«العلمانية» ما قيل عن «البنيوية» فهي قائمة في كل شيء، ف«الشكلانيون» و«التشكيليون» ومصممو «الأزياء» و«المساكن» يصفون اضافاتهم وتجديدهم بأنه عين «الحداثة»، وفي تصورهم انها تتحقق بمجرد المغايرة، والموجفون عليهم بخيلهم ورجلهم، والذائدون عنها بسلاحهم، حين تتجلى لهم بصورتها الحقيقية، يعرفون انهم يضربون في فجاج الوهم، وذلك بعض ما نشاهده من الخصوم والأنصار، والجذر اللغوي «ح. د. ث» يعطي ذات المفاهيم، ويوقع في اللبس، ولكن الدلالة الوضعية تضمحل في ظل الدلالة المصطلحية، ومن ثم فإن «للحداثة» حكايات لا تجليها المغالطة، ولا يحررها الجهل، ف«الحداثة» غير التجديد، وغير المعاصرة، وغير التحديث، وغير المجيء من البدو إلى الحاضرة، ومن القرية إلى المدينة، والتحول من الجمل إلى السيارة، إنها «ايديولوجيا» صنعت على عين الغرب المادي، وبوحي من الفلسفة الوضعية، وكل قائل عنها يعري نفسه على حد: «تحدث حتى أراك» ومعتقدنا وتصورنا: انها: مذهب «فكري» و«سلوكي» يقتضي: «العدمية» و«التدمير» و«الانقطاع» و«التهتك»، و«الغموض» و«الهروب» و«العصاب» و«الازدراء» و«النفي» و«الالغاء» و«التساؤل» و«الاحتجاج» و«التوتر» و«الغثيان»، وكل ذلك بعض ما يقوله ذووها بأفواههم، لا ما نقوله نحن، ومثلما يدعيها غير الأدباء، يدعيها المبدعون والدارسون والنقاد والمهندسون والتربويون وعلماء الاجتماع واللغة والنفس، وهي في تقلبات مع المفكرين والسلوكيين والساسة وسائر علماء المعارف الإنسانية، فأي حداثة يريد القائل بذهابها، والمتملقون لها في المشاهد المحلية لا يملكون الحسم في أمرها، وكيف يتأنى لعائل مستكبر ان يقول كلمة الفصل، وهو الطاعم الكاسي؟.

«للحديث صلة»

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved