قال محدثي: «سأسافر إلى أوروبا في مهمة دعوية لإلقاء دروس ومحاضرات في مساجد ومراكز إسلامية هناك» فقلت له: «عسى الله أن ينفع بك» قلت هذا وفي النفس شيء لم أبح له به، ولربما لو فعلت لوقع ما كان في حسباني.
ذلك بأني لم أذكر خلال معرفتي به أنه قرأ كتابا في علم من علوم الشريعة، أو شارك في عمل دعوي، ورغم التزامه وحبه للخير، فهذان امران لا يعتبران مؤهلان رئيسان للقيام بهذه المهمة.
إن الدعوة إلى الله هي أولا وقبل كل شيء مهمة الأنبياء والرسل، ومهمة أتباعهم من بعدهم وتزداد الحاجة للدعاة كلما عظم الخطب بالأمة واشتد، وأن الأمة الأسلامية اليوم تمر بمرحلة تتداعي الأمم عليها كم تتداعى الأكلة الى قصعتهم. أو من قلة؟ لا! بل نحن اليوم كثير. تقول الإحصاءات ان عدد المسلمين اليوم تجاوز البليون ولكنا كما نبأنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : «غثاء كغثاء السيل».
أنا لا أقصد بهذه الكلمات تمهيدا لتحليل واقع الأمة، فإن مقالا كهذا لا يستوعب تفاصيل واقعها فضلاً عن تحليله، إنما أقصد جانب أهلية الداعية الذي يوجه للخارج لدعوة وتثقيف الجاليات الإسلامية في الغرب وغيره، وهذا الموضوع وإن سبق طرحه إلا أني رأيت أن أدلو بدلوي رجاء الفائدة لا لدعوى أهليتي لمهمة الدعوة، وكذلك لاستخلاص ثوابت دعوية من تجربتي وتجارب آخرين.
لابد للداعية أن يدعو إلى الله على بصيرة، والبصيرة هي العلم الشرعي كما هي العلم بحالة المدعو، وحالة بيئته التي يعيش فيها والتيارات العقدية والفكرية في تلك البيئة. فكما هو معلوم أن ساحة الدعوة في الغرب ساحة مفتوحة أمام كل داع وناعق وهذا يعني أن المسلم الذي يعيش هناك معرض لشبهات كثيرة يعجز عن دحض كثير منها، وهنا تبرز أهمية العلم الشرعي كشرط لازب.
إن المسألة التي بين أيدينا قد تم طرحها كما أسلفت، ومن جوانب متعددة كان آخر ما قرأت عنها في مقال للأستاذ سلمان العُمري في صحيفة الجزيرة بعنوان: (دعاة الداخل هل يناسبون الخارج) غير أني لم أجد في التعقيبات التي قلتها ما يرفد مادة المقال المذكور، بل زادته تشعباً وإسهاباً، ذلك بأن ما يستحق الوقوف عنده هو التساؤل الرئيس الذي طرحه الأستاذ العُمري في مقاله.
لا يخفى على أحد أهمية الدور الريادي الذي تؤديه وزارة الشؤون الاسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في مجال الدعوة في الداخل والخارج، كما لا يخفى الجهد الكبير الذي يبذله قيِّم هذه الوزارة معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ من أجل تنفيذ برنامج دعوي واضح الأهداف. لذا فإن هذا التساؤل لا يعد استدراكا على أحد بقدر ما هو استيضاح لواقع دعوي، وبيان لما قد يُشكله؛ لاسيما وأن معاليه قد عودنا على إعطاء أذن صاغية لآراء واقتراحات ذوي الاختصاص.
لابد من التسليم أولاً بأن لهذا التساؤل ما يسوغه إذا أخذنا بالاعتبار طبيعة البيئة التي يعيش فيها المسلمون في دول العالم الغربي، وقد ذكرت آنفاً أول ملامح هذه البيئة وهو استيعاب لكل التيارات الدينية، والفكرية والسياسية وغير ذلك، وهذا يقتضي إلمام الداعية ( ولأسميه هنا الداعية الزائر إلماما ولو طفيفا بالاتجاهات الدينية التي تستهدف الوجود الإسلامي هناك).
وإلى جانب هذا، لابد أن يدرك الداعية الزائر أن الجالية الإسلامية في أية دولة من دول الغرب تتكون من مزيج متباين من الثقافات، والألوان والمذاهب.
ولعل أشدها خطرا هو هذا الأخير، ولبيان حدة أثار التعصب المذهبي فإن المسلمين هناك مازالوا مختلفين على مطالع الهلال منذ ما يزيد على ثلاثين سنة، وقد تُصلى صلاة عيد الفطر في المدينة الواحدة في ثلاثة أيام متتاليات بسبب هذا التعصب.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أن المسلمين المقيمين في الغرب وفدوا من دول إسلامية ذات نظم سياسية مختلفة، وإن منهم من يُعرض بحكومة بلده أو غيرها بطرح قضايا أو مسائل على الداعية الزائر مما قد يتعذر عليه الخوض فيها فلابد والحال هذا ان يأخذ بالاعتبار هذه الحقيقة، وأن يتوخى الحكمة في طرحها.
بقيت مسألة أخيرة لا يمكن تجاهلها أو إغفالها في هذا المقام وهي أن الجالية الإسلامية تتكون من ثلاث طوائف: طائفة المستوطنين، وهم الذين اتخذوا من الدولة التي وفدوا إليها وطنا ثانياً، وطائفة من المسلمين ذوي الإقامة المؤقتة كالطلبة، وذوي الأعمال المؤقتة، وطائفة ثالثة وهي تشمل الوطنيين، وأخص بالذكر منهم الأمريكيين الأفارقة، وهؤلاء أقل حظوة من المستوطنين فيما يتعلق بالدورات الشرعية والأنشطة الدعوية الأخرى، رغم ان نسبة ازديادهم أعلى بكثير من سائر طوائف المسلمين في أمريكا الشمالية، وهم بحاجة الى دعاة يتكلمون الإنجليزية بطلاقة لأن ايصال المعلومة اليهم بطريق الترجمة يستغرق وقتا أطول ويبعث الملل.
إن إهمال المسلمين الأفارقة أو (السود) لفترة طويلة أعطى الفرق الضالة فرصة جيدة للعمل بينهم واستقطاب أعداد كبيرة منهم في غفلة من أهل السنة والجماعة عنهم.
ولقد نبتت بينهم نبتات صوفية قوية الجذور الى جانب الفرق الضالة الأخرى، والواقع أن هذا الإهمال يوسع الفرجة بين هؤلاء وبين إخوانهم المسلمين الوافدين إذ قلما يخصهم الداعية الزائر ببرنامج تثقيفي دعوي؛ وهم أحوج ما يكون لهذه البرامج، وهم لها متعطشون.
نخلص من هذا الى ضرورة معرفة الداعية بهذه الحقائق لكي ينجز مهمته بنجاح ويحقق النتائج المرجوة منها. وهذا في الواقع ما يدفع الى التساؤل حول جدوى إرسال دعاة الداخل الى الخارج، ذلك بأن الداعية الذي اعتاد طرح مسائل مسلَّم بها في دار الإسلام قد يعجزه الخوض في المسائل التي سبق ذكرها في عالم يجهل عنه أكثر بكثير مما يعرف، ولربما وجد نفسه مضطراً إلى الاقتصار على القصص والوعظ، أو على مسائل عامة كان يمكن أن يتكلم بها احد القصاص المحليين ببراعة وتشويق.
ولكي لا يكون كلامي هذا مجرد نقد سلبي أجد لزاماً علي وتوخيا للنصيحة أن اقترح إعداد دورات للدعاة المبعوثين للخارج من اجل أقلمتهم مع بيئة المجتمعات التي يرسلون إليها، وأحوال الجاليات الإسلامية فيها، وحبذا لو أن هذه الدورات تشمل تعليم اللغات الرئيسة في تلك المجتمعات لكي تؤتي هذه الحملة الدعوية المباركة أكلها بإذن الله.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
د. محمود بن رضا مراد
|