انهزامية في الرأي، أو رجوع إلى حقيقة، أو شجاعة في الطرح أو خوف من سوء المصير، سمها ما شئت، واذهب في تفسيرها وتعليلها وتحليلها كل مذهب. فأي من هذه التفسيرات واردة، والحقيقي منها قد يستعصي عليك استظهاره، إذ لا يعلمها إلا من تمثلت به تلك الصفات، أوصدرت منه هذه المبادرات والاقتراحات. وساذج- كل السذاجة- إن هو اعترف لك بها تلميحا أو تصريحا، وبخاصة في مجتمع يحاسب الإنسان على كل صغيرة وكبيرة، ويرصد عليه الهفوات قبل الحسنات. لكن إياك والنظر إلى أي من هذه الصفات بعين العاطفة والهوى حتى لايصيبك ما أصاب غيرك، وبخاصة إذا كانت أفكارك أخذت طريقها للنشر، عبر قنوات الإعلام، وبحت بها في مرحلة قد لا تدرك عواقبها، أو لم تكن بمعرفة تامة بمآلك ومستقبل أيامك.
قليل من الكتَاب وأصحاب الرأي أحرار، لا تؤطِّر رؤيتهم قيود الوظيفة أو المكانة أو الجاه، ولا تتدخل في تشكيلها المصالح الذاتية أو النزعات الأخرى.
وهم مغبوطون على ذلك، لأنهم ينطلقون من واقع فطرة الإنسان وسجيته النازعة لكل ماهو خير للبشرية، قبل أن تدنس صفاءها المادة.
أما الكثير منهم ظلموا أنفسهم، وجاروا على منْ حولهم، ومن مروا بتجربتهم، وقضوا شطراً من حياتهم يكابدون معهم المعاناة، ويرسمون معهم طرائق الخلاص، حتى انتقلوا من واقعهم إلى واقع آخر.
وقد يتفاوت أصحاب الرأي في إقدامهم أو إحجامهم في الانتصار لمبادىء المسؤولية الاجتماعية، حسب المؤسسة التي ينتمون إليها، وشكلت ثقافة قياداتها ومناهجها شخصياتهم، فالمنتسبون إلى المؤسسات التربوية والتعليمية تعلموا منها المنهج الحر في التعبير عن الرأي، وجهدوا قدر الإمكان في ممارسته وتطبيقه، لتحقيق أهداف عليا لذا لا غرابة أن يظل صوت المسؤول فيها موصولا بمن هم تحت دائرته، وإن حالت به الحال إلى ميدان آخر.
ذات يوم فاجأني أحد المديرين الذين زاملتهم معلما بإضمامات لإحدى الصحف المحلية التي حملت بعض المقالات والرؤى التي طرحتها يوم أن كنت معلما، وهي المرحلة التي وصمتها«بمرحلة الوصاية»، لقصور تصوري للواقع من جهه، وضعف التجربة ورفع حرج المسؤولية من جهة أخرى.
أما وقد اكتويت بنار المسؤولية الإدارية، واصطدمت بالواقع، فقد حاولت أن أتناسى ما كنت آخذه على الآخرين، وأطلب منهم ماليس بوسعهم أحيانا، رغم أن ما طرحته من رؤى تربوية أخذ بعضه طريق التطبيق بفضل القيادات التربوية الواعية التي دأبها تلمس أوجه القصور، وما يرتقي بأهداف المؤسسات التعليمية.
موضوعات تعليمية وتربوية متعددة سطرتها في صحيفة الجزيرة، فاستلَّها صاحبنا من أرشيف الزمن حاملة العناوين التالية: اليوم المكتبي ضرورة لمدير المدرسة، التربية الوطنية المديرون أولى بتدريسها، التسلط الإداري، الإعلام التربوي، محاكمة التعليم، مأساة المعلم يا معالي الوزير، الانحرافات السلوكية، ولا أدري هل كان اجتلابها لي على سبيل المحاكمة، أو من قبيل الممازحة ونفض الهموم، أو ما يعرف بالإسقاط، أو كلاهما معا؟! عموما، قد لاينتشل الآخرون ما سطرته في بعض سني حياتك إلا لمعرفة ما إذا كنت ولازلت مستمسكا بآرائك، مستمرا في المنافحة عنها في دائرتك الوظيفية، ومنتدياتك الاجتماعية، أم تلاشت من ذاكرتك حين تحمَّلها غيرك وانحلت أوزارها عن كاهلك،
تناسي هموم الآخرين مشكلة كبرى، وخيانة عظمى للأمانة، وتخل صريح عن أدبيات المهنة. لكن في اعتقادي أنه لا يمكن أن يخبو صوت الإنسان، أو أن يتملص من أفكاره ورؤاه ويتراجع عنها إلا في موقفين: طارح واجه المشكلة بنفسها، ففكر وقدر ما ارتأي، وعاد وتأمل ما طرح، ونظر فتدبر ما اقترح، واصطدم بأنظمة ولوائح أو أعراف ليس من الميسور اختراقها، ولم يكن فيها من المرونة ما يسمح للانسان تفسيرها وتطويرها حسب رؤيته، وبالتالي لا يضيره رجوعه، كما لاينفعه إصراره.
طارح ألحت عليه عواطف معينة، ودوافع مختلفة، دونما أهداف دينية، أو اجتماعية، أو وطنية سامية يسعى لتحقيقها، ومن الطبيعي أن تخبو هذه العواطف، وتتلاشى تلك الدوافع متى زالت أسبابها، وهذا الصنف من الناس شكلت الأمراض الاجتماعية شخصيته، واستحكمت على أقواله وأفعاله، غاية الأنانية في نظري، وأخطرها على المجتمع أن يدفن الإنسان هموم الآخرين، وراء ستار المواربة والمداهنة خوفا على مكانته، وبخاصة إذا تحققت أهدافه وطموحاته الشخصية، فتصبح معوقات عمله ومناط آماله السالفة نسيا منسيا من قاموسه.
حقا إنها مشكلة كبرى تطرح نفسها أمام متخذي القرارات الإدارية، والمتسنمين ذروة المجالس الشورية والتشريعية والقانونية.
|