لم تكن مكالمتها الهاتفية إلا تعبيراً صادقاً عن إحساسها بمشكلة اجتماعية تعيش معها كلَّ يوم، قالت لي: لماذا لا تكتب عن «الهزل في حياتنا»؟، إننا نميل إلى حياةٍ لاهيةٍ بعيدة عن الجدِّ والعطاء، والعمل النافع المفيد، وحينما طلبت منها التوضيح قالت: أنا أحدِّثك عن حالة معظم اللقاءات النسائية، ففيها من هزل القول وإضاعة للوقت فيما لا ينفع ما يؤلم قلب الغيور، ينعقد المجلس النسائي على القهوة والشاي وما ويتيسَّر معها من أصناف المكسَّرات والحلويات، ثم تبدأ الأحاديث، وما أدراك ما الأحاديث، غيبة ونميمة، ورسائل جوَّالاتٍ فارغة، ونكتةٌ وراء نكتة، وضحك مستمر مصطنع وغير مصطنع، وإضاعةٌ للوقت فيما لا يفيد، إنني أتحدَّث إليك عن مجالس تستمر الساعة والساعتين والثلاث، لا يدور فيها إلا هزل القول، وكأن الحياة لا تصبح جميلة إلا بالتنكيت والضحك والحديث عن فلانة التي تزوجت، وفلان الذي عدَّد، وفلانة التي أحبَّتْ، والأخرى التي أبغضت، والثالثة التي حصلت على وظيفة في قرية نائية، والعاشرة التي نزلت إلى السوق ووجدت غرائب الأزياء، والألف التي طلقها زوجها، وهكذا يذهب الوقت هدراً، ولا يجد عندهن قيمة ولا قدرا.
قلت للمتحدثة: كأني بك تبالغين في الأمر، أليس هنالك ما يخالف هذه الصورة القائمة التي تقولين؟.
قالت: والله إن الأمر أخطر مما قلت لك، وإن هذه المجالس هي الأغلب والأكثر انتشاراً، وإنها أبعد ما تكون عن الجدِّ، والحديث في النافع المفيد، وإذا عرضت واحدة عليهنَّ الحديث فيما ينفع، ودعت إلى مناقشة موضوعات جادَّة مفيدة للمرأة والأسرة والمنزل، بدت على الوجوه علامات الضيق، وتعالت أصوات معارضة لهذه الدعوة إلى النَّكَد، وتردَّدت عبارات: «اتركينا من التعقيد» و«دعينا نستأنس»، وغيرها من العبارات التي تدلُّ على أن النفوس قد تعوَّدتْ على الهزل وعدم احتمال القول الجادّ، والحوار المفيد.
وحينما انتهت المكالمة، جلست مع نفسي أفكِّر فيما قالت الأخت الكريمة، وتأمَّلت حالة بعض المجالس النسائية التي تصل إليَّ أخبارها، فبرزت أمامي بصورة واضحة مشكلة اجتماعية خطيرة، إنها مشكلة المجالس المنعقدة للهزل من القول وإضاعة الوقت في الأحاديث التي لا تضيف لعقول الناس وقلوبهم شيئاً نافعاً، وأنا أرى أن المشكلة عامة في مجالس النساء والرجال، حيث يشيع أسلوب الغفلة والنكات المؤدَّبة وغير المؤدبة، والضحكات التي تتعالى مرسِّخة معنى الغفلة، والميل إلى اللهو، واستثقال الكلمة النافعة، والقصة المفيدة، والحوار الهادف البناء.
إنَّ هذه المجالس «الهازلة» ترسِّخ في النفوس البعد عن الجدِّ في القول والعمل، وتعوِّد كثيرا من الناس على إضاعة الوقت فيما لا يفيد، وإنَّ من أخطر ما تعاني منه أمتنا في هذا العصر الغفلة، وعدم الشعور بأهمية العمل الجاد، والميل إلى الضحك والهزل، في وقتٍ نرى أعداءنا يعملون ليل نهار في تنفيذ خُطط سياسية وعسكرية وثقافية واجتماعية يستهدفون بها عالمنا الإسلامي ومجتمعاتنا وأسرنا.
لماذا هذا الميل الى الحياة اللاَّهية المسترخية؟؟ ومتى تكون حياتُنا قائمة على الجد والعمل وعدم الإهمال؟؟، ولماذا لا نعطي هزيل القول حجمه الطبيعي من حياتنا؟؟
أقول للأخت الكريمة، الأمر خطير كما ذكرت، وليست مجالس كثير من الرجال بعيدة عما وصفت لي من مجالس النساء، وإن الأمر يحتاج الى عناية من العلماء والمثقفين وأرباب الأسر رجالاً ونساءً، فإضاعة الوقت فيما لا يفيد خسارة كبيرة.
إشارة:
أنا مسلمٌ لا اليأسُ يسكنني كلاَّ ولا الإخلاد والكسَلُ
|
|