حين تكون ظمآناً، ثم ترى قبالتك كأساً أُدهقَ نصفُ مائها.. هل تتحسر على المهدر منها أم تفرح بالنصف المتبقي؟
لك العطش ولك الرِيُّ، ولخلاياك أن تشعر بما تريد!! تقرير «التنمية الإنسانية العربية الأول» الأخير الصادر من هيئة الأمم المتحدة عبر خبراء ومثقفين عرب وبمساهمة من جامعة الدول العربية، أزعج كثيراً من المتابعين العرب المحايدين، لأنه يوحي بيأس من مستقبل العالم العربي.. ويوصد أبواب النور، حتى جعل الزمن العربي، كما قال الشاعر:
بات ساجي الطرف والشوقُ يلحُّ فالدجى إن يمض جنح يأت جنحُ فكأن الشرقَ بابٌ للدجى ما له خوف هجوم الصبحِ فتحُ
|
ومفهوم التنمية الإنسانية أو البشرية، اكتسب رواجه منذ التسعينيات محاولاً الابتعاد عن السياسي المباشر، وشاملاً ثلاثة أبعاد (حسب منى عبيد)، أولها القدرات البشرية كتطوير المهارات المعرفية والعناية الصحية، والثاني طريقة استخدام هذه القدرات. وآخرها جودة الحياة المعيشية والرفاهية، ففي التقرير، كل هذه الأبعاد متدنية كأسوأ ما يكون في العالم. وما أزعج بعض المراقبين العرب المحايدين هو مبالغة التقرير في وصف الأزمات وطريقة أسلوب التقرير ذات الصياغة المفجعة.. وكأنه تأبين لمستقبلنا.
البعض يرى أن التقرير سياسي وليس مهنياً أو علمياً محايداً.. وأن كُتَّابه من الناشطين في مجال حقوق الإنسان وليسوا من الباحثين المتخصصين.. مما يوحي بتأثير العاطفة غير الموضوعية والمبالغة السمجة في صياغة التقرير. وإذا كان د، رياض طبارة جعل التشاؤم فلسفة التقرير، فإن الخبير السياسي كلوفيس مقصود على النقيض يرى أن التقرير يمكن أن يكون باعثاً على التفاؤل.. ففي نطاق التفاؤل والتشاؤم يقول: «يبدو تفاؤل التقرير وهاجاً على الأمل. فهل يؤكد أن المنطقة العربية لم تزج في معركة التنمية بكامل قواها.. فقد حبس الكثير منها في زنزانات الجهل والخوف، فإن فتحت هذه الزنازين فالأرض رحبة أمامها لاجتراح المعجزات..».
وبالمقابل يرى محمد عبود أن التقرير يرسم صورة صادقة في مرآة الحقيقة المعيشة، بل يرى أن التقرير لم يكن ليجيء في توقيت أفضل... بينما يشكك البعض في توقيت العاطفة العنيفة لهذا التقرير في ظل الأوضاع العالمية الراهنة، حيث تضغط جهات خارجية على العالم العربي من أجل التغيير لمآرب تخصها، خاصة الثقافي منها، مما يلقي بظلال الريبة على الغرض السياسي من تقرير بهذه المواصفات. ويرد آخرون أن التصريح بالعيوب ينبغي أن يستمر بغض النظر عن الملابسات الدولية والأزمات التي يعيشها العالم العربي، فالتغاضي عن هذه العيوب يعني عدم التطرق إليها مطلقاً لأن عالمنا العربي لم ينفك غارقاً في الأزمات الدولية منذ عقود.
ويثير التقرير في دوامته سؤالاً ملحاً لدى القارئ.. أين المخرج إلى عالم النور؟ يقول هابرماس إن التنوير ليس حالاً فكرية وحسب، بل نقطة انطلاق وتحرر، علاقة بين صعيدين: صعيد الرؤية الفكرية المتنورة التي تغاير نظرتنا إلى الذات والعالم وصعيد الممارسة الهادفة التي تنقلنا من نمط الممارسات التلقائية إلى نمط الممارسات الواعية واختياراتها العقلانية.
أي (حسب تفسير هشام شرابي) صياغة أطروحاتنا المستقلة عن الغرب مثلاً أو عن التقوقع الماضوي، بما يمليه واقعنا المعاش وقضايانا وخصوصياتنا دون إحداث قطيعة مع تراثنا أو مع الفكر الغربي. ويقول العالم أحمد زويل: «إنه دون قاعدة علمية حقيقية سنخرج من مسار الإنسانية وتاريخها.. الكثير يظن أن التكنولوجيا هي شراء واقتناء.. هذا المفهوم خاطئ.. الحكام يتفقون معي تماماً. الناس العاديون يتفقون معي أيضاً، لكن العملية التنفيذية الوسطى بين الاثنين شديدة الضعف في العالم العربي..» ويقول بعض المفكرين العرب إن هناك فجوة كبيرة في المعرفة في العالم العربي.. تستلزم إيجاد صلات واضحة تربط المبدعين والباحثين ومحللي السياسات مع المنتجين وصانعي القرار.
خاتمة القول، إن هذا التقرير الإنساني مع ما به من مآخذ، ألقى حجراً في المياه الآسنة رغم عدم احتوائه على ما يفاجئنا.. وأثار مناقشات لما تزل محتدمة، فصياغته غير المألوفة من المقارنات والمقاربات والمعايير تحرك عواطف الجلمود من الصخر.. فورة أو قنوطاً.. حتى أمسى الحجر ليس بمنأى عن نوائب الزمن العربي، ولن تنفع المتمثل بقولة الشاعر الجاهلي:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرُ تنبو الحوادث عنه وهو ملمومُ
|
|