Sunday 5th January,2003 11056العدد الأحد 2 ,ذو القعدة 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

محمد الأمين .. فارس يترجَّل محمد الأمين .. فارس يترجَّل
عبدالمحسن بن عبدالكريم البكر

رحل عن دنيانا الفانية منذ أيام واحد من أكثر الذين أثرَّوا في تشكيل الحياة الإعلامية والإدارية والفكرية والثقافية في المملكة في العقود المتأخرة وهو سعادة الاستاذ الكريم محمد الأمين بن ابراهيم الصغير المستشار والمشرف على الشؤون الإدارية والمالية بوزارة الإعلام والذي أحسبه كان حريصاً على صياغة توجهات فكرية وقناعات ثقافية من شأنها ان تدفع محلياً وعربياً باتجاه تطور وعي متقدم بقضايا الوطن والأمة وسبل التعامل معها وتوظيفها بما يحقق تنمية الإنسان ومحيطه الاجتماعي والسياسي.
ولست أدري إن كانت هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها رثاء لأحد أم لا؛ غير انني أحسست ان ما سأكتبه ليس برثاء وان رحيل (الأمين) لايمكن ان يمرّ دون كلمة عرفان له وللجيل الذي يمثله من أبناء الأسرة الإعلامية وخصوصاً الإدارية منها في وزارة الإعلام.
بدأت علاقتي بالأمين منذ سنوات قليلة جداً.. في ذلك الوقت كان احتكاكي المباشر بالبرامج المتلفزة من خلال برنامج (دين ودنيا) وشاء الله ان يكون تعاملي مع فقيدنا الحبيب من هذا الجانب حيث كنت أختلف إليه بقصد التباحث معه حول إمكانية تطوير البرنامج وتذليل العقبات التي تعرض لبرنامجنا.. فآتي إليه بفورة حماسة الشباب الطموح الذي لايرضى بأقل من الإبداع وأسرد له سيلا من العقبات الكؤود حتى أقول لنفسي: سيعذرني لو تركت البرنامج ويصغي إليّ وإلى حديثي بابتسامة الأب الرحيم والاستاذ المشفق ثم يمطرني بسيل من الكلمات التوجيهية والنصائح الأخوية التي صقلتها خبرة العمل وتجارب الحياة وأخلاق الكرام حتى قال لي يوماً وقد مدّ يده يصافحني: عاهدني بالله ألا تترك التلفزيون!! فقلت له وقد مددت يدي أصافحه: أعاهدك بالله إلا أن يحاط بنا..!
لقد استفدت كثيرا من ذلك الرجل الفذ.. فماذا تريدون أن أحدثكم عن شخصيته أذكر لكم عدد الساعات التي يقضيها في العمل والتي جاوزت سبع عشرة ساعة وأحياناً أكثر من ذلك إخلاصاً لله ثم لوطنه وأمته حتى قال له بعض الفضلاء من إدارته: يا أباهشام رفقاً بصحتك؟! فرد عليه قائلاً: هل تريد أن أفرط بالأمانة!! أما الفقراء والمحتاجون فله معهم صولة وجولة منذ كان موظفا بسيطاً حتى ترقى في سلم الوظيفة وهو يواسيهم حتى جعل ذلك وصية يوصي بهم أبناءه وهو على فراش الموت.. فيا لعظم الرجل.. ويا لشهامته..
لقد استطاع ابو هشام ان ينحت مكانة ساحقة في نفوس زملائه ومحبيه بما ضرب لهم من أمثلة رائعة في البذل والعطاء والصبر والتضحية وحب الخير للجميع لأنه يؤمن بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وان الله تعالى بيده خزائن كل شيء ومن ثم فإنه لاينبغي التعلق إلا بالله وحده وأن الإنسان مهما أوتي من مال ومنصب فإن ذلك ليس كافياً في العبور إلى قلوب الآخرين!! وإنما يكون جواز العبور إلى بوابة القلوب صنائع المعروف وعلى هذا جبلت القلوب..
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
في هذا الإطار عرفت «الأمين» الذي كان دائم التوجيه السديد، ودائم الابتسام، دافئ اللقاء، سليم الطوية دأب النشاط، ومع امتداد علاقتي به في الزمن اكتشفت عن كثب حجم العطاء الذي قدمه «الأمين» لأمته وكان أروع ما في العطاء ان أحداً من أبطاله لم يكن يجعجع أو يتشدق به بمناسبة أو بدون مناسبة ولكنك كنت تقترب من صورته العامة شيئاً فشيئاً من خلال معلومة هنا أو تفصيل هناك لايرد إلا في سياق موقف يتطلب الاستشهاد بواقعة أو التدليل بحجة أو الإشادة بزميل استشهد أو استعادة طرائف المواقف الصعبة وكنت دائماً أتذكر المثل الإسباني الذي يقول: قل لي ماذا تزهو به أقل لك ماذا ينقصك!! والمعنى واضح: وهو ان من يتحدث عن البطولة ليس ببطل وان «الأمين» وجيله من العاملين الصامتين هم الأبطال والجنود المجهولون الحقيقيون. وكلما تعمقت علاقتي بالأمين وأبناء جيله كان يراودني خاطر أحياناً: ماذا لو ان الأمين وأبناء جيله من الذين حملوا عبء ثقافة المملكة في أدق مراحلها قد توقفوا للحظة وتساءلوا بنفس منطق بعض الموظفين العموميين غير المكترثين بقضايا الوطن: ماذا أعطانا هذا الوطن لكي نخلص له؟! لكن الله قيض لهذا الوطن جيلاً من المخلصين لم يجادلوا أصلا في حق الوطن عليهم واعتبروه من البدهيات ولم يخطر لهم ببال ان يطلبوا مقابلا لما كانوا يقدمونه ويقومون به وجنباً إلى جنب مع المرض القاسي والخطر الدائم الذي سكن أحشاءه فتعين عليه ان يبدو شامخاً قوياً لم يهزمه المرض، وظل يصارعه إلى أن فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها..
لقد كان يباشر العمل بنفس المستوى وحجم الأداء تماماً كما كان يؤديه وهو صحيح معافى رغم ان المرض كان يصارعه بقوة وبسرعة حتى تغيرت ملامحه ومع ذلك يؤدي واجب الأمانة التي تقلدها بكل كفاءة واقتدار ليضرب بذلك درساً للأجيال القادمة ان الإرادة الصلبة والعزيمة القوية لايمكن ان تلين خصوصاً إذا كانت لله ثم للوطن..
وإذا كان المرء اليوم لايسعه سوى ان يقول بكل الحب والتقدير للاستاذ الجليل محمد الأمين وداعاً وان يعزي فيه أهله وأبناءه وأبناء جيله والمؤسسة الإعلامية التي ينتمي إليها وعلى رأسها معالي وزير الإعلام الدكتور فؤاد بن عبدالسلام فارسي ومساعد وزير الإعلام صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن سلطان بن عبدالعزيز فإن العرفان الحقيقي له ولجيله يتمثل في الدفاع عن القيم التي تمسك بها فقيدنا وحارب من أجلها..
وأن نحاول مواصلة نفس النهج الذي اتبعه إيماناً وإخلاصاً من أجل رفعة وطن شرفه الله المولى عز وجل وجعله مهبطاً للوحي ومهديا لأفئدة المسلمين..
ولقد كان رحمه الله خلوقاً ودوداً متواضعاً محباً للخير وأهله حريصا على الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن غيوراً على قضايا أمته ووطنه. ولا أجد ما أقوله إلى الأمين رحمه الله سوى ان أقول: أحسنت يا أستاذنا الجليل ويا شيخنا الكريم فجزاك الله عن كل ما قدمته للوطن وأبنائه ولمجمل الفكر الإنساني خيراً رحمك الله رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته وعوضك عن عملك الكريم الباقي بكل خير وألهم ذويك ومحبيك الصبر والسلوان {إنَّا لٌلَّهٌ وّإنَّا إلّيًهٌ رّاجٌعٍونّ} ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا على فراق (الأمين) لمحزونون.. وصلى الله على نبينا محمد.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved