دخل العالم خريف الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، وتساقطت أوراق التسلُّح النووي ذلك بأن سنَّت الولايات المتحدة الامريكية قانونها الأممي لمكافحة الارهاب وما زالت أعاصير الحروب والأزمات في شتاء الارهاب تجتاح الدول والتقدم يكون على جسور المعاناة وأنهر من الدم والدموع، وأمريكا باتت تخاطب العالم بلكنة فرعون إن لم تؤمنوا بي فستؤمنون بعواقب الأمور، وفي جدلية القانون والحق نجد أن القانون هو الشيء الذي يسلِّم به كثير من الناس ويسهل قبوله ليس لأنه صواب، بل لأن التسليم به لا يحدث معارضة وحرجا، ولكن الأمر الذي ينكره الناس وخاصة انه حين يتم الاجماع على انكاره يفقد الناس القدرة على إدراكه، وبرهان ذلك هي التجربة المثيرة التي قام بها بعض علماء الأنتروبولوجي «علوم إنسانية» فقد احضروا عودين من الخشب أحدهما أطول من الثاني بشكل جلي، وجمعوا 9 أشخاص واتفقوا معهم على مخالفة الحقيقة بأن يقولوا عن العود الأقصر إنه هو الأطول حين يُسألون، وكانت التجربة تُقام على الشخص العاشر الذي اعتقد أن الناس قد تم اختيارهم عشوائياً أيضاً، وبدأ الخبير بسؤال التسعة الأشخاص بالترتيب وكان ترتيب صديقنا العاشر، فاندهش هو حين كان يسمع إجابات كل واحد عن وصف العود الأقصر بأنه الأطول وحين حان دوره لم يستطع أن يتلفظ بالحقيقة التي تراها عيناه وكانت إجابته بمثل ما تلقفت أذناه من إجابات التسعة الذين قبله رغم إدراكه أنه يخالف الحقيقة.
واليوم أمريكا تعد للضربة الوقائية ضد العراق بوصفها امتدادا لمحور الشر الذي يشمل كوريا الشمالية وإيران ولا تتوانى الحكومة الأمريكية في سياستها الخارجية عن استخدام ما في جعبتها من أوراق، فمرة تستل ورقة الضغط من أجل حقوق الانسان وورقة أخرى للديمقراطية والآن ورقة التحضير للضربة الوقائية ضد العراق ومرة أخرى تستعمل ورقة الرشاوي النووية لتثني كوريا الشمالية عن برنامجها النووي، ومرة تستعمل ورقة الحصار الاقتصادي والسياسي ضد إيران. يقول المثل «للظروف حدوتها وللأيام مهاميزها»، وفي غمرة انشغال الولايات المتحدة في قضية العراق ونزع أسلحة الدمار الشامل فيه تُشعل كوريا الشمالية فتيل الأزمة النووية في شبه الجزيرة الكورية انطلاقاً من اقتناع حاكمها الستاليني الشيوعي «كيم يونج ايل» بأن أكسير النصر يأتي من فاكهة التحدي ومحاولة منه لابتزاز الأمريكان للحصول على عرض واتفاق أكثر سخاء، ورغم أن العراق ينفي امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل إلا أن الولايات المتحدة تصر على الإطاحة بنظام صدام، والحقيقة أن واشنطن لن تتخلى عن 115 مليار برميل نفط في العراق «حيث يأتي احتياطي العراق في المرتبة الثانية على مستوى العالم» وحتى لو تعددت سيناريوهات ضرب العراق «سواء بالسعي لبلقنة العراق تقسيمه الى كيانات مستقلة متصارعة أو باحتلاله مباشرة أو بوضعه تحت الوصاية الأمريكية أو بتزكية قرضاي عراقي عربي» فالنتيجة واحدة، فمسألة التسلح العراقية مختلفة في تضاريسها الجغرافية والسياسية عن المسألة الكورية الشمالية، فالعراق مطوق بحليف الناتو القوي «تركيا» وإيران ذات العداء التاريخي للعراق وإسرائيل المزروعة في قلب المنطقة استنزفت طاقة الصراع لعقود وعهود ورغم كل ذلك فالقضية الفلسطينية ما زالت معلقة والعراق سبق ان دق اسفين النزاع في بنيان اخوته مع جيرانه العرب ولاسيما الخليج العربي لذلك لن يجد نظام صدام من يسانده بعد أن بات نظامه غير مأمون الجانب ولا محمود العواقب.
ونعود للمسألة الكورية الشمالية حيث وضع كوريا الشمالية يختلف عن وضع العراق مع أن التهمة واحدة، فرغم إعلان بيونغ يانغ إعادتها العمل في مفاعلها النووي القادر على إنتاج البلوتونيوم لأغراض عسكرية وإعلانها أيضاً عن امتلاكها لبرنامج تسلح نووي سري فإن السياسة الامريكية حذرة من وعورة المنطقة السياسية لشبه الجزيرة الكورية، فالبلدان المحيطة بها مثل الصين «المارد الشيوعي الأكبر» لن ترحب بدور إمبريالي أمريكي في المنطقة يخالف عقيدتها، واليابان كذلك ذات العداء التاريخي المشترك مع كوريا الشمالية تسعى للحلول السلمية وكذلك الجارة الكورية الجنوبية، وسبق أن فجَّر نفس المفاعل السوفيتي الصنع ازمة نووية قبل 10 اعوام بشبه الجزيرة الكورية عندما اكتشف المفتشون الدوليون أن هذا المفاعل يستخدم في تطوير البلوتونيوم الذي يمكن استخدامه في الاسلحة النووية، وسبق أن انتزعت واشنطن فتيل الازمة بتوقيع اتفاق عام 1994م وأسفر عن إغلاق المفاعل مقابل تزويد كوريا الشمالية بمفاعلين نوويين يعملان بالماء الخفيف وشحنات من البترول الأمريكي، ولكن منذ إعلان كوريا الشمالية طرد المفتشين الدوليين وإعادة تشغيل المفاعل فإن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لتفعيل ورقة الضغط السياسي والاقتصادي لإجبار كوريا الشمالية على التراجع عن مواقفها دبلوماسياً فلا الزمان ولا المكان يناسبان الأمريكان الآن رغم إطلاق صقور الحرب في ادارة بوش نذير الحرب وقدرة الولايات المتحدة الأمريكية على خوض حربين إقليميتين في وقت واحد. ان اقتراب كوريا الشمالية من حافة الهاوية هي مجازفة كبيرة وحسب تصريح الخبير في شؤون شبه الجزيرة الكورية في وكالة السيطرة على الأسلحة النووية (بول كين) «ان كوريا الشمالية تلعب بورقتها النووية وبدون اجراء محادثات معها وانهاء الضغوط على الدول المجاورة لها لوقف تزويدها بالمساعدات الاقتصادية فلن يكون أمامها خيار سوى استخدام هذه الورقة النووية».
ان قطب العالم الأوحد الآن هو أمريكا التي نصَّبت نفسها شرطي العالم وحارسه النووي، ودور الأمم المتحدة ومجلس أمنها ما زال في الظل ويذكرنا بعادة بعض الشعوب القديمة التي كانت تقطن القوقاز والتي كانت تقضي العادة لديها حين ضياع وفقدان أحد مواشيها عن القطيع أن تعقد ربطة على الشجرة كتعويذة تحمي الشريدة من الماشية من الخطر المحدق بها ولكن تلك التعويذة في الحقيقة لم تكن تمنع الكواسر عنها.
ونحن الآن على اعتاب 2003م بعد أن اغلق 2002م بابه وراءه، وما زال يحمل سفر الإرهاب بين طياته والحروب والنزاعات والازمات كلها تتطلع لريح الحلول أن تأتيها من الباب العالي للسلطان الأمريكي ولكن نتمنى ألا تكون العاقبة مثل خاتمة قصة الأسد والثعلب والحمار حيث يُحكى أن ملك الغابة الأسد طلب مرة من الثعلب «الذي كان يرافقه كظله في حلِّه وترحاله وكأنه رئيس وزرائه» طعاما مهددا إياه بأنه سيأكله إن لم يجلب له ما يسد به رمقه فهرع الثعلب قائلاً: سأجلب لك الحمار يا سيد الغابة وذهب الثعلب في زيارة مكوكية إلى الحمار فلما لقاه قال له: إن الأسد يبحث عن ملك آخر للغابة فتعال معي لتتقرب منه لعله ينصِّبك ملكاً فارتاب الحمار أولاً في كلام الثعلب وهو يعلم علم اليقين أنه مكَّار ولكن شهوة السلطة تملكته ومع إلحاح الثعلب اقتنع ورافق الثعلب متوجها الى ملك الغابة، وحين وصلا وقبل أن يتكلم الحمار قام الاسد وضربه على رأسه فقطع أذنيه ففر الحمار على الفور، وهكذا فشلت خطة السلام الأولى وعاد الأسد يهدد الثعلب قائلاً: إن لم تعدْ سآكلك بدلا عنه، فانطلق الثعلب سعيا وراء الحمار حتى أدركه وراح يعاتب الحمار قائلاً: كيف تترك مجلس الملوك بهذه الطريقة وتضيع على نفسك فرصة الجلوس على العرش فرد الحمار: لا تنصب علي أيها الثعلب فقد أطعتك وصدقت أوهامي والحقيقة هي أن الأسد يريد أكلي، فقال الثعلب ولكنك لا تدرك الحقيقة في أن ملك الغابة يريد تنصيبك على العرش. فقال الحمار وكيف تبرر ضربته على رأسي حتى طارت أذناي؟ فقال الثعلب أنت فعلاً غشيم كان يجب أن تطير أذناك حتى يركب التاج على رأسك، فقال الحمار: صدقت أيها الثعلب سأذهب معك هذه المرة إلى الأسد الطيب، وعادا أدراجهما الى عرين الأسد وحين دخلا قال الحمار: يا ملك الغابة أنا آسف فقد أسأت الظن بك فرد الأسد: بسيطة، وقام واقترب من الحمار ثم ضربه مرة ثانية فقطع ذيله ففر الحمار مرة أخرى، فقال الثعلب معاتبا الأسد: لقد أتعبتني أيها الأسد، فقال الأسد: هاته وإلا أكلتك وهكذا فشلت المحاولة الثانية.. وذهب الثعلب إلى الحمار وبادره قائلاً ما مشكلتك؟ فقال الحمار أنت كذاب، دجال فقد بت مصلوم الأذنين وفاقد الذيل وأنت لا تزال تقول يريد الأسد أن ينصِّبني ملكاً. فقال الثعلب لماذا لا تمعن في الحقائق اكثر فكيف ستجلس على كرسي الملك وذيلك من تحتك؟ فقال الحمار فعلاً لم أفكر بهذه الطريقة ولم أفسر الأمور على هذا المنوال، وقال للثعلب أنت فعلاً صادق وسأعود معك لملك الغابة لأعتذر منه ونرتب الأمور، وحين عاد قال الحمار للأسد: أنا جداً آسف ومستعد لكل ما تطلبه مني فقال الأسد لا تهتم لسفاسف الأمور فهذه مجرد اختلافات في وجهات النظر، وقام الأسد وافترس الحمار من رقبته والحمار يصيح أين التاج أين العرش؟ وعندما لفظ الحمار أنفاسه الأخيرة قال الأسد للثعلب: خذه واسلخ جلده وأحضر لي المخ والرئة والكلى والكبد وامتثل الثعلب لأمر الملك ولكنه أكل المخ ورجع للأسد بالرئة والكلى والكبد فقط فقال له الأسد: ولكن أين المخ أيها الثعلب فقال الثعلب يا ملك الغابة لم أجد له مخاً. فقال الأسد: كيف ذلك؟ فقال الثعلب لو كان للحمار مخ لم يرجع بعد قطع أذنيه وذيله، فقال الأسد: صدقت أيها الثعلب فأنت خير صديق صدوق ونجحت هكذا خطة السلام الثالثة..
|