فتية ذهبوا في الدهر هربا بدينهم، وفرارا بإيمانهم، خرجوا من المدينة الصاخبة المقتولة بالهوى واللهو والمجون، المحروقة بلهيب الشهوات، والمطمورة بأوحال الشبهات، هربوا من الابنية الفاخرة، والملاهي، والمراقص والحانات، ملتجئين الى رب الأرض والسماوات، سلكوا طرقات وعرة بين الجبال السامقة، هاربين من المدينة باحثين عن مكان منعزل آمن يعبدون فيه ربهم بعيدا عن مراقبة أهل الكفر والنفاق الذين قتلوا القيم والأخلاق، رحلوا من وادٍ الى واد، ومن جبلٍ الى جبل، حتى رأوا هنالك في منطقة الرقيم كهفا متميزا بموقعه الآمن، له فجوة تدخل منها الشمس، وعلى بوابته هالة من النور، والاطمئنان لاحت لهم من بعيد، فتوجهوا إليه، واستقروا فيه، وبينما هم يتهيأون لإعداد هذا المقر الجديد، إذا بهم ينامون، ويسافرون في أطول رحلة نوم بشري عرفها الكون، وكيف لا تكون كذلك وقد جاوزت ثلاثة قرون؟؟
كانوا في رحلة نومهم، ومدينة «فيلادلفيا» في رحلة لهوها ومجونها في ظل حاكم ظالم منحرف العقل والعاطفة، كان يشن حربا ضروسا على متدين يخاف الله ويدعو الى الخير، نعم، كانت المدينة في رحلة قاسية من جبروت حاكمها، وانحراف كبار القوم فيها، وبؤس ضعفائها وفقرائها، وكان الكهف في جبل الرقيم حافلا بأنفاس مؤمنة بالله تعطر أجواء ذلك الكهف النائي، ولو ان حاسة الشم عند حاكم المدينة وأصحاب اللهو والانحراف فيها سليمة لاستمتعوا بتلك الانفاس العطرة التي تنبعث من ذلك الكهف البعيد.
وتمر الايام، وتتسابق الليالي في طريق الزمان الطويل، وتتساقط اوراق الشهور والاعوام من أغصان شجرة الدهر العظيمة، ويقضي الموت على تلك الفئة الظالمة الكافرة بربها، ويتولى الأمور في المدينة حاكم صالح محب للخير، بعد ان عاش الناس عشرات السنوات تحت سياط الظالمين.
هنا يشاء الله عز وجل ان يضع بين يدي عباده عبرة من العبر العظيمة، وقصة من القصص العجيبة، يكشف لهم بها طرفا من أطراف قوته وقدرته وعظمة ملكه واحاطته بكل شيء هنا - بعد اكثر من ثلاثمائة سنة يستيقظ النائمون من سباتهم العميق، فتية في كهف هربوا بدينهم قبل ثلاثمائة وتسعة اعوام ودخلوا الى هذا الكهف، وقد اجهدهم التعب والجوع والظمأ، ثم ناموا نومتهم الطويلة، وها هم اولاء يستيقظون الآن، يفركون عيونهم من آثار نوم ثقيل، أحسوا بثقله ولكنهم كانوا - حينها - على يقين انه لم يتجاوز يوما او بعض يوم، ومع ذلك فقد كان يراودهم شك في نومهم هذا، فهو ثقيل الى درجة شعروا معها انهم عاشوا حالة غريبة ولذلك قال قائلهم: {ربكم اعلم بما لبثتم} [الكهف: 19] وكأنهم قد اتفقوا على غرابة حالة نومهم الذي ناموه، ولكنهم كانوا عاجزين عن حقيقة الامر.
هناك في ذلك الكهف عرفت المدينة اغرب قصة من قصص النوم الطويل، حينما انكشف امر الفتية وكهفهم بسبب تاريخ العملة النقدية التي حملها احدهم الى السوق ليشتري بها طعاما.
اي طعام أيها الفتى ان بينك وبين عهد هذه العملة ثلاثمائة وتسعة اعوام، مات ذلك الملك الجبار المتطاول على الله، وخلفه ملوك، حتى أُسند الامر الى الملك الذي يحكم تلك المدينة الكبيرة، فأعاد الحق الى نصابه.
عاد الفتى - ومعه القوم - الى اخوته في الكهف، ودخل إليهم ليخبرهم بالحقيقة، حقيقة الزمن الطويل الذي قضوه في هذا الكهف نائمين، وكان القوم ينتظرون خارج الكهف، وطال انتظارهم، وحينما دخلوا وجدوا الفتية قد رقدوا رقدتهم الاخيرة التي ليس بعدها الا يوم البعث، يوم يخرج الناس من الاجداث سراعا.
هناك في منطقة الرقيم الواقعة في «الأردن» ظهر الكهف «العبرة» بعد دراسات وحفريات، موقع يبعد عن العاصمة عمان بأقل من عشرين كيلو متر فيه سبعة قبور وفجوة تدخل منها الشمس وآثار رومانية قديمة، وهالة من الموعظة والعبرة وانفاس الفتية المؤمنين برب العالمين، تقول لنا بلسان مفصح لا ينطق، وانما يهز الاعماق: الى متى تبقى غفلة الغافلين؟
إشارة:
لا تُريقي الصَّبْرَ فالزيفُ الذي ملأ الأرضَ ستَذْرُوه الرياح
|
|