على قمة تل مينويز هيل في مستنقعات نورث يورك ببريطانيا العظمى، يوجد مركز للتجسس يعمل به 1400 فرد من وكالة الأمن القومي بالولايات المتحدة و350 فرد من وزارة الدفاع البريطانية، يقومون بجمع رسائل البريد الإلكتروني والفاكسات والاتصالات عبر التليفونات السلكية والمحمولة وعبر الألياف الضوئية التي يجري اعتراضها من كل مكان من العالم باستخدام شبكة من السفن والأقمار الصناعية والمنشآت الأرضية الموجودة حول العالم وتعمل على مدار الساعة ليلاً ونهاراً، ويجري تمرير كل الرسائل والاتصالات المعترضة إلى فروت مين بولاية ميريلاند الأمريكية، حيث تتم دراستها وتحليلها وتصنيفها وتفسيرها بحثاً عن أي محتوي محل للشك، بما في ذلك أي استخدام لكلمة «الحرية»، ثم بعد ذلك يجري إرسال كل ما يتم اعتراضه إلى كل من الحكومات الأربع الرئيسية المشتركة في هذا النظام ( وهي الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا ونيوزيلندا ) وأي دولة أخرى صديقة أو حليفة تبدي اهتماماً بالأمر أو تسعى للحصول على معلومات من هذا النوع في إطار تبادل المعلومات وتبادل الخدمات والكشف عن المؤامرات والمخططات والأنشطة الإرهابية أو الإجرامية أو المتطرفة، ويسمى نظام المراقبة هذا الجاري على نطاق العالم كله والذي لم يسبق له مثيل على نحو يثير الانزعاج والخاضع لسيطرة حكومة الولايات المتحدة باسم «النسق» أو «أيكلون».
وعلى الرغم من الرعب الذي قد يلقيه هذا في النفس، إلا أنه يمثل فقط قمة جبل الجليد بالنسبة لما يفعله الأخ الكبير بنا وأوجه التفنن في مراقبتنا ومدى ما وصل إليه من براعة في هذا الخصوص من حشد لكافة الطاقات الفنية والتكنولوجية والبشرية والمالية لكي يعد علينا أنفاسنا، وعلى نحو دقيق وواضح يقشعر له البدن، يوثق ويحلل تشارلز سايكس في كتابه الجديد المسمى ب: «نهاية الحياة الخاصة : الحقوق الشخصية في مجتمع المراقبة» برامج وخطط الحكومة ومنظمات أخرى الهادفة إلى معرفة دقائق حياتنا لكي تتمكن من السيطرة علينا وتوجيهنا حيث تريد كقطيع مسلوب الإرادة فاقد الشعور معدوم الهوية والخصوصية كإنسان من حقه التمتع بحريته وحياته الخاصة وإنسانيته، وقد قام سايكس في كتابه الأسبق المسمى «أمة من الضحايا» بشرح كيف أن المجتمع الأمريكي قد أصبح مهدداً في ظل خرافات وأوهام وضلالات اشتراكية الطابع وسياسات حكومية أبوية تسلطية بأن يتحول إلى بلد يدير فيه عدد متزايد من الناس ظهورهم لفكرة توجيه وحكم الذات، والمسئولية الذاتية، وأي احترام متبادل للحقوق الفردية للآخرين، ويعرض سايكس كل الوسائل المحتملة التي من خلالها يكشف الناس أنفسهم للعالم الخارجي ويقعون ضحية للعصر الحديث ومنجزاته من التكنولوجيا المتطورة. ويؤكد أيضاً أن التكنولوجيا مثلما لها جانبها المشرق الذي يسهل للإنسان حياته ويجعلها أكثر راحة ويسراً ويوفر الوقت والجهد فإنها أيضا لها جانبها المظلم. فعندما تستخدم بواسطة «الشخص الخطأ» (الحكومة أو الشركات الكبرى) فإنها يمكن أن تحيل الحياة إلى جحيم.
وكما أكد القاضي لويس برانديس منذ ما يزيد عن قرن من الزمان أن الخصوصية ( أي حق الإنسان أن يكون بمفرده ) هو الحق الذي لا يقدر بثمن الذي يتمتع به الأمريكان. ولكن مع قدوم الكمبيوتر والوسائل السمعية والبصرية المتعددة وأدوات التنصت ذات التكنولوجيا المتقدمة وشن الحرب على المستوى الفيدرالي وعلى مستوى الولايات على الجريمة والإرهاب وسن تشريعات جديدة تحكم حياة الناس وزيادة تدخل وسائل الإعلام في الحياة الشخصية أصبحت الخصوصية عرضة لخطر داهم. ويتتبع تشارلز سايكس جذور الخصوصية في ثنايا القانون والدستور الأمريكي ويكشف عن مدى التآكل الذي حدث فيها والهجوم المتواصل على الحياة الخاصة التي لم تعد تحترم ويسلط عليها الضوء ليلا ونهارا. كما يسوق سايكس العديد من الأمثلة الدالة على كيفية مراقبة المحادثات وتسجيل المكالمات والوصول للسجلات الطبية والمالية وأدق أسرار الحياة الشخصية والعائلية باسم الحفاظ على الأمن أو مكافحة الجريمة والإرهاب أو حماية المصلحة العامة.
ويقوم سايكس بقرع أجراس الخطر ولفت الانتباه إلى أن فقدان أي مكان خصوصي وشخصي خال من الأعين والأذان الفضولية المتطفلة قد أصبح حلما بعيد المنال وذكرى عزيزة ماضية نتحسر عليها. ويشير إلى مدى الأهمية الحقيقية التي يمثلها وجود الإحساس بالخصوصية وممارسة الحياة الشخصية بعيدا عن الأعين والآذان الإلكترونية التي تجري منا مجري الدم وتكاد تلتصق بجلودنا وتضيق علينا الخناق وتشعرنا بأنه لم يعد لنا مكان نذهب إليه، فكل إنسان على وجه البسيطة يحتاج بالفعل إلى مكان للحياة الشخصية يستطيع فيه الاختلاء بنفسه فكرا وعملا والالتقاء بالآخرين والتحدث إليهم دون أن ينصت إلى هذا الحديث أي كائن آخر، وبدون الخصوصية لا يكون هناك معنى أو إمكانية للخجل أو الحياء، فإما أن نكون على سجيتنا وأن نتصرف على نحو مكشوف، أو حتى نحدد تلك اللحظات والعلاقات التي نعتبرها خصوصية من تلك التي نعتبرها شيئاً مباحاً وعاماً من حياتنا، ويذكرنا سايكس بأن القضاء على الخصوصية والحياة الخاصة كان أمراً يشغل موقعا متميزا في برنامج الدول الشمولية والأنظمة الشيوعية في القرن العشرين، حيث لم يكن هناك مكان للفرد للاختباء من رقابة وإشراف الدولة.
ويبرهن سايكس على أنه على الرغم من أن عصر الكمبيوتر الجديد الذي دخلناه في التو هو عصر يقدم آفاقا واسعة وليس لها حدود ولم تستغل الاستغلال الأقصى بعد لتحسين وتعزيز نوعية وتنوع الحياة الإنسانية والقضاء على العديد من المشاكل التي تواجهها البشرية، إلا أن إساءة استخدامه واستغلاله في الوقت الحالي هو خطر أكبر بكثير مما يدركه الكثير من الناس، إن لب الخطر يأتي من مصدرين أساسيين مرتبط بعضهما ببعض، الأول: هو الفشل في جعل القانون ينص بوضوح على أن هناك أنواعاً كثيرة من المعلومات سواء التي يقدمها المرء بنفسه أو التي يتم جمعها عنه هي معلومات من الواجب اعتبارها ملكية خاصة له، أو الفشل في وضع احتياطات وإجراءات وقائية مؤكدة لضمان عدم الدخول إلى أو استخدام أو نقل هذه المعلومات الخاصة بدون موافقة الشخص موضوع المعلومات، والمصدر الثاني للخطر: هو محاولة فروع عديدة من فروع الحكومة الفيدرالية الأمريكية وحكومات الولايات الدخول إلى واستخدام كل المعلومات الإلكترونية والكمبيوترية المسجلة والمتصلة بكل ما يخص نواحي عمل أي شخص وحياته الخاصة وأدق أسراره الشخصية والعائلية (لدرجة أنه يمكن لبعض الجهات الوصول للبصمة الوراثية للشخص التي تمثل خريطة كاملة لتفاصيل جيناته ومعرفة احتمال إصابته بأمراض معينة من أجل استغلالها مثلا في شركات التأمين على الحياة أو لأي غرض آخر غير مشروع ومنتهك للخصوصية)، ويواصل سايكس تحذيرنا مستمرا في قرع ناقوس الخطر الذي يتهددنا في هذا العصر الإلكتروني البغيض ويؤكد على أننا أينما نذهب ومهما نفعل فإننا نترك دائما تقريبا أثرا كمبيوتريا يتيح لمن يرغب أن يقتفي أثرنا أن يفعل بسهولة، فنحن نستخدم بطاقة ائتمان أو نشتري عن طريق الشيكات في أي وقت نشتري فيه أو نتناول طعامنا بالخارج أو عند ذهابنا ذات مساء للتنزه، وفي بعض الأحيان ربما نقوم بالدفع نقدا مقابل بعض المواد المنزلية أو الترفيهية أو الكمالية أو أي سلع أو منتجات أخري يمكن أن تكشف عن معلومات معينة عن حياتنا ولكننا نضطر أيضا عندئذ إلى استيفاء وإرسال بطاقة ضمان إلى المنتج، كما أننا نحصل على القروض، ونشتري السيارات، ونجري الفحوص الطبية، ونملأ أيضا الاستمارات، كما نشتري أشياء عبر الإنترنت أو نقوم فحسب بالاتصال بموقع شبكي ما معين فيتم اقتفاء أثرنا ومعرفة كل شيء عنا.
إننا نرسل ونستقبل الرسائل الإلكترونية، ونجري المكالمات من خلال تليفونات لاسلكية، أو نرسل المذكرات عن طريق الفاكس، ويتم عندئذ تخزين نسخ من كل واحدة من هذه وأشياء أخرى كثيرة داخل جهاز كمبيوتر، وغالبا ما يجري إرسالها إلى أجهزة كمبيوتر أخرى لعمل مقارنة وفحص مركزي لأجزاء المعلومات التي يتم جمعها عن كل واحد منا داخل أماكن عامة من الممكن الدخول إليها بسهولة، إن تواريخ حياتنا وانتصاراتنا ومآسينا ومشاكلنا الأكثر شخصية وخصوصية وتفاعلاتنا واحباطاتنا ومخاوفنا كلها كتاب مفتوح أمام البحث والتطفل وإساءة الاستعمال.
ويعبر سايكس على أنه لأمر بالغ السوء بدرجة كبيرة أن تكون معلومات كثيرة جدا عنا متاحة ميسرة وتستخدمها شركات ومؤسسات ومنظمات في القطاع الخاص، ولكنه يرى أنه مهما كان استخدام القطاع الخاص للمعلومات الشخصية أمرا غير مرغوب فيه وضاراً، فإن أهميته تتلاشى عند مقارنته بما تفعله بنا الحكومة، والواقع أن الخطر الرئيسي الناجم عن جمع وتخزين القطاع الخاص لمعلومات عن حياتنا الشخصية الفردية إنما يكمن في سهولة وصول الحكومة إليها كلها وذلك سواء بالقانون أو بالتهديد غير المباشر لتلك المنظمات والشركات والمؤسسات التي تمتلك بنوك معلومات إلكترونية.
ومن أجل أن تضمن الحكومة سهولة واستمرارية الهجوم على حياتنا الخاصة فإنها لا تكف عن محاولتها الدؤوب للحد من تطوير واستخدام وسائل لحماية وصيانة وتشفير كل من الاتصالات التجارية والخاصة عبر الإنترنت، وسواء كانت الإدارة الموجودة في السلطة هي إدارة ريجان أو بوش أو كلينتون، فالمبدأ السائد هو حاجة حكومة الولايات المتحدة لامتلاك «المفتاح» الخاص بالدخول إلى وقراءة أي نظام شفري مستخدم أو وضع القيود على تطوير أي شفرات لا تستطيع الوكالات الأمنية في الولايات والمتحدة «فكها» في فترة زمنية قصيرة.
وبالطبع، تضع الحكومة حججا ومبررات لحاجتها لكل هذه المعلومات عنا: فربما نكون إرهابيين، أو تجار مخدرات، أو متهربين من الضرائب، وتزعم أنه فقط بسبب أن أياً منا قد يكون ضمن إحدى هذه الفئات، فإنها تحتاج إلى معرفة كل شيء وأي شيء حول أي واحد منا وأن لها الحق في ذلك.
ويشير سايكس أيضاً إلى أن أعداء الخصوصية والملكية الخاصة الفردية للمعلومات الشخصية ليسوا حكراً على جناح معين أو تيار سياسي بعينه ولكنهم يطلون برؤوسهم من بين صفوف كل من اليسار السياسي واليمين السياسي وكل منهم له مبرراته الجاهزة، فالمحافظون يريدون تقييد الخصوصية لأننا ربما نكون منغمسين في قراءة أو قول أو مشاهدة أو المشاركة في شيء خطأ من الناحية الأخلاقية، ومن ثم يتطلب الأمر تنظيم ذلك من جانب الحكومة، وأنصار الحركة النسوية يريدون تقييد الخصوصية لأن أحدا ما ربما يكون منخرطا في التحرش بامرأة ما أو ممارسة التمييز ضد امرأة ما في مكان ما حول شيء ما في وقت ما من الأوقات.
وسواء كان من الممكن أم لا اعتبار بنوك المعلومات الخاصة والمعلومات التي يتم جمعها واستخدامها فيها تمثل مشكلة خطيرة في مجتمع يتصف بحرية السوق ومحدودية سلطة الحكومة، فالحقيقة هي أن وجودها وتوافرها في بيئة سياسية بها حكومة غير مقيدة ومتطفلة وتنهج منهج التدخل بشكل متزايد إنما هو أمر يتطلب شكلا ما من الحقوق المعترف بها قانونا والواجبة التنفيذ فيما يتصل بالحياة الخاصة، هذا وإلا سنواجه خطرا حقيقيا يتمثل في قيام الأخ الكبير بمعلوماته غير المحدودة عنا بوضع كل ما يعرفه رهن إشارة المنظمين السياسيين والمهندسين الاجتماعيين والحمقى من المصلحين المثاليين والاجتماعيين من أجل المزيد من دس أنوفهم في حياتنا الشخصية.
الكتاب : The End of Privacy: Personal Rights in the Surveillance Society
المؤلف : Charles J. Sykes
الناشر: New York: St marttins Press ,1991
تشارلز سايكس
هو مؤلف «إغراق أطفالنا» و«أمة من الضحايا» و«بروفسكام». وهو صحفي قام بالكتابة في صحف شهيرة مثل «نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال» و«شيكاغو تربيون». وهو زميل معهد البحوث السياسية بويسكنسون وباحث بمؤسسة «هوفر».
|