كان لابد أن أعرض للقراء سبب اختيار هذا الكتاب وترجمته ليكون متاحاً للرأي العام العربي كوجهة نظر مطروحة في سياق الأحداث التي تعصف بالعالم اليوم. فقد نشرت جريدة الجزيرة في عددها الصادر برقم 10881 وتاريخ 4 جمادى الأولى 1423هـ الموافق 14 يوليو 2002 عرضاً للكتاب في صفحة (الإصدار الدولي) تحت عنوان ( هل تورطت أمريكا في حرب أبدية من أجل سلام أبدي)، وهو عنوان مستوحى من العنوان الأصلي للكتاب الذي أصدره جور فايدل: (حرب أبدية لسلام أبدي: كيف أصبح الأمريكيون مكروهين بشدة). وجاء في عرض الصحيفة للكتاب أن جور فايدل يشعر بعدم الارتياح تجاه ما ترمي إليه حكومة الولايات المتحدة وجزء من الشعب الأمريكي في وضع حريات المجتمع المدني في مرتبة متأخرة أثناء الحرب على الإرهاب.. وانتقد المؤلف بسخرية لاذعة الرأسمالية الأمريكية ودور اليمين المتدين في السياسة الأمريكية الذي لا يفوت فرصة دون أن يستغلها. وعندما طرح فايدل وجهات نظره تجاه حادثتي تفجير المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما عام 1995 والهجمات على نيويورك وواشنطن عام 2001 اختلف معه البعض لكن الجميع اتفق على أن كتابات فايدل كانت قوية وصريحة ولبقة، ولهذا السبب لم يجد الكاتب ناشراً يجرؤ على نشر كتابه باللغة الإنجليزية بسبب مقاله الأول عن أحداث سبتمبر، فنشر الكتاب باللغة الإيطالية وكان من أكثر الكتب مبيعاً في إيطاليا، بعد ذلك تمت ترجمته إلى اثنتي عشرة لغة عالمية من بينها الإنجليزية. ومن خلال متابعتي لمثل هذه الموضوعات طلبت الكتاب من دار النشر التي طبعته بالإنجليزية في نيويورك وقرأته فألفيته إصداراً قيماً يعرض لوجهات نظر جديرة بأن يطلع عليها القارئ العربي، إذ أن كثيراً من القضايا التي يتحدث عنها تهم القارئ المسلم والعربي أكثر من غيره من أبناء الشعوب التي ترجم الإصدار إلى لغاتها المختلفة
وهأنذا أعرض على السادة القراء ما جاء في الكتاب على ثلاث حلقات، أرجو أن تكون مفيدة لهم.
وقبل أن أترككم تتابعون فصول الإصدار، أود التنبيه إلى أن الترجمة تمت بموضوعية كاملة نعرض فيها رأي المؤلف كما ذكره في كتابه، ومن الطبيعي أن كل رأي أو فكرة إنما تعبر عن رأي جور فايدل ولا تعبر عن رأي المترجم أو جريدة الجزيرة وقد اضطررت تمشياً مع سياسة النشر في صحيفة الجزيرة إلى حذف فقرات محدودة من الكتاب. ......المترجم
تقول قوانين الفيزياء إنه ليس هناك فعل دون رد فعل، وهذه القوانين تصدق في الطبيعة الإنسانية، أي في تاريخ الإنسان، وفي الستة أعوم الأخيرة، هناك تاريخان جديران بالتذكر لمدة طويلة الولايات المتحدة الفاقدة للذاكرة United States Of Amrica ، وهما: 19أبريل 1995م عندما قام أحد جنود المشاة يدعى تيميثي ماكفي Timothy McVeigh بتفجير المبنى الفيدرالي في مدينة أوكلاهوما وقتل 168 من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء.
لماذا؟
أخبرنا ماكفي ببلاغة مطولة عن السبب، ولكننا ووسائل الإعلام وصفناه بأنه مجنون، ومغرم بالقسوة، وأنه شخص يتلذذ في إيقاع العقوبة على الآخرين، ومنحرف، وشاذ، وليس شخصاً عادياً كبقية الأمريكيين.
في 11 سبتمبر 2001 قام أسامة بن لادن ومنظمته الإرهابية بضرب مانهاتن والبنتاجون. عندها أوعز أعضاء البنتاجون المسؤولون عن شؤوننا ببرمجة الرئيس ليعلن لنا أن أسامة بن لادن كان «شريراً» حاسداً لما نحن فيه من نعمة وثراء وحرية.
تعليلات غير منطقية
لم تكن أي من تلك التعليلات منطقية، ولكن حكام أمريكا على مدى أكثر من نصف قرن قرروا أنه يجب ألا يعرف الشعب الحقيقة عن أي شيء فعلته الحكومة تجاه الشعوب الأخرى، أو الناس الآخرين، فضلاً عن أن نذكر ما فعلته تجاهنا نحن إذا أخذنا في الحسبان حالة تيميثي ماكفي. كل ما نعرفه هو أغلفة ضبابية لمجلتي التايم والنيوزويك التي تعرض أصابع بشعة لأشباح غامضين يشيرون إلينا والشرر يتطاير من أعينهم، بينما تختلق صحيفة النيويورك تايمز والمطبلين لها الروايات الملفقة عن «أسامة» المجنون و«ماكفي» الجبان، وهي بذلك تقنع الكثير من الأمريكيين أنه لن يجرؤ أي من هذين على مهاجمة أمة ترى أنه لن يتكرر مثلها في تاريخ البشرية. إن أعضاء الحكم قد يكونوا هم الذين أفرزوا مثل ماكفي، وهو أحد أبطال حرب الخليج ومن قلب الولايات الأمريكية، ومثله أسامة الذي كان في يوم ما مدافعاً عن الإيمان.
مثل هذه الأشياء تحدث في وسائل الإعلام الأمريكية، ونحن القراء أو المشاهدين يجب ألا نُخبر أو نعرف عن سبب حدوث مثل هذه الأشياء، ومن يكون منا معنياً بمحاولة البحث عن الأسباب يجد صعوبة في فهم لغز وسائل الإعلام المدعومة من جهات لا نعرفها. وكما اكتشفت عندما حاولت أن أشرح ظاهرة ماكفي أو أحداث 11 سبتمبر، إذ باءت كل محاولاتي للنشر بالفشل.
أصوات مكبوتة
أما أرنو جي. ماير Arno J. mayer فقد كان أيضاً من أصحاب الأصوات المكبوتة في أحداث سبتمبر، وهو أستاذ التاريخ المتقاعد في جامعة برنستون، كانت مقالته تحمل العنوان الآتي: «التوقعات المبكرة» ولكنها لم تجد منفذاً للنشر في كل أنحاء الولايات المتحدة، حتى مجلة الأمة The Nation التي كنت أعمل فيها محرراً متعاوناً لسنوات عدة هي أيضاً المجلة التي رفضت نشر آرائي حول أحداث 11 سبتمبر، لكن ماير نشر مقالته في صحيفة ليموند الفرنسية، ومما ورد في تلك المقالة: «حتى الآن، في عصرنا المتحضر، فإن الأعمال الإرهابية التي تصدر من أشخاص كانت تمثل سلاح الضعفاء والمعوزين، بينما الأعمال الإرهابية السياسية والاقتصادية التي تصدر من الدول هي سلاح الأقوياء، وفي كلا النوعين من الإرهاب فإن من الأهمية بالطبع التفريق بين الهدف والضحية، وهذا التمييز كان واضحاً جداً في الضربات المميتة التي استهدفت مركز التجارة العالمي: الهدف كان رمزاً مهيمناً ومحوراً من أهم محاور القوة المالية والاقتصادية في العالم، الضحية هم سيئو الحظ ومن كان مثلهم من القوى العاملة، ولكن هذا التمييز لا ينطبق على ضربات مقر وزارة الدفاع (البنتاجون) لأنه استهدف القيادة العسكرية العليا لأصحاب العولمة الرأسمالية حتى ولو أدى بلغة البنتاجون إلى إلحاق الضرر بالإنسانية.
وفي كل الحالات فإنه منذ عام 1947 والولايات المتحدة رائدة في ممارستها لإرهاب الدولة، وصاحبة المبادرات الأولى في هذا المجال، وبخاصة في العالم الثالث ولكنها كانت تخفي ذلك على نطاق واسع. فإضافة إلى تشديد الرقابة على الحكومات في أحيان، وتغيير حكومات في أحيان أخرى في مرحلة المنافسة المحمومة مع الاتحاد السوفيتي أيام الحرب الباردة، فإن واشنطن عمدت إلى أسلوب التصفية والاغتيالات السياسية من خلال الجماعات التي تنوب عنها في تنفيذها. لقد كانت أمريكا العقل المدبر في عملية قتل لومومبا Lumumba واليند Allende، وكانت لها محاولات فاشلة لاغتيال كاسترو والقذافي وصدام حسين، واستخدمت واشنطن الفيتو ضد كل الجهود التي بذلت لوقف انتهاكات إسرائيل للاتفاقيات الدولية، بل وحتى إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل.
ويجب عليّ أن أشير هنا إلى أن صحيفة لوموند الفرنسية تصنف على أنها صحيفة محافظة، وقد كانت لعقود مضت مؤيدة لإسرائيل. أما مقالتي عن أحداث 11 سبتمبر فقد نشرت باللغة الإيطالية في كتاب مثل هذا، وفي رأي كثير من الناس فإن تلك المقالة هي مثال لما يعرف ب «أكثر الكتب مبيعاً» ، وكانت كذلك، إذ ترجمت إلى عشرات من اللغات الأخرى.
وفي حالة ماكفي وابن لادن فقد توقعت أنه من المفيد أن أصف كثيراً من الحماقات المختلفة من جانب الولايات المتحدة التي قادت كلاً من ماكفي وابن لادن إلى مثل هذه الأعمال الإرهابية.
طيارون انتحاريون
11 سبتمبر 2001م (الثلاثاء) وهو اليوم الذي أقدم فيه طيارون انتحاريون على متن طائرات تجارية على الارتطام بالمباني الأمريكية المزدحمة بالناس. لم يكن مثيراً للدهشة فرغم أننا أنفقنا أكثر من سبعة ترليونات على ما يسمى ب «الدفاع» منذ عام 1950 إلا أنه لم يكن هناك إنذار بالخطر من هيئة المباحث الفيدرالية FBI أو من وكالة الاستخبارات CIA أو حتى استخبارات وزارة الدفاع. وفي الوقت الذي كان فيه أتباع الرئيس بوش يستعدون بشوق لحرب ضد كوريا الشمالية تستخدم فيها الصواريخ المتطورة، فإن أسامة بن لادن أدرك أن كل ما يحتاجه في حربه ضد الكفر هو مجموعة من الطيارين الذين لديهم الرغبة في التضحية بأنفسهم، وكذلك عينة عشوائية من الركاب الذين قادهم الحظ لأن يكونوا على متن طائرات مختطفة.
أسرار كثيرة
كانت الاتصالات الهاتفية تنهمر عليّ وأنا أقضي الصيف في مدينة نابولي الإيطالية، وكانت الصحف الإيطالية والإذاعة والتليفزيون تريد تعليقاً على هذا الحدث، وأنا كذلك. وكنت قد كتبت عن بيرل هاربر Pearl Harbor . والآن يعود إليّ السؤال نفسه مرات وكرات: ألم يكن هذا اليوم كصباح يوم الأحد 7 ديسمبر من عام 1941؟ ثم أقول: لا، ليس مثله، وحسب معلوماتنا حتى هذه اللحظة فلم يكن هناك إنذار بالخطر عن هجوم الثلاثاء، وبالطبع فإن لدى حكومتنا الأسرار الكثيرة، والكثيرة جداً، التي نتوقع أن يعرفها أعداؤنا بكل تفاصيلها، لكن شعبنا لا يعرفها إلا بعد سنوات، إن كان سيعرفها أصلاً. لقد أغضب الرئيس روزفلت اليابانيين حتى جعلهم يهاجموننا في بيرل هاربر، ولقد وصفت كل خطوات الرئيس في هذا الصدد في كتابي «العصر الذهبي» لكننا الآن نعرف ما الذي كان يدور في ذهن الرئيس روزفلت. لقد ساعد انجلترا ضد حليف اليابان، هتلر، وهي التراجيديا التي انتهت بمأساة تجاه الجنس البشري بأكمله. ولكن ما الذي كان ولا يزال في ذهن أسامة بن لادن؟
أوصاف مزيفة
لقد كانت وسائل الإعلام الأمريكية لعقود متعددة تصف العالم الإسلامي بأوصاف مزيفة، وتعد المسلمين شياطين. ولأنني أمريكي مخلص فإنه ليس من المفترض أن أخبركم بسبب ذلك، وعلى الرغم من ذلك فإنه ليس غريباً أن نتساءل عن سبب حدوث الأشياء.
إننا ببساطة نتهم الآخرين بأن لديهم الطبيعة الشريرة والمؤذية. ولذلك يقول جورج واشنطن : «إننا الخير والآخرون هم الشر». وهذه المقولة تختصر كل ما نريد قوله. أكد بوش ما قاله جورج واشنطن في جلسة مشتركة للكونجرس عندما قال: «إنهم يكرهون ما يشاهدونه هنا في هذه القاعة» وهي إشارة إلى صورة مزيفة عن الإسلام متأصلة، لقد توقعت أن ملايين الأمريكيين هزّوا رؤوسهم بحزن أمام أجهزة التليفزيون. ثم استطرد الرئيس بوش قائلاً: إن قياداتهم تُعيّن نفسها. إنهم يكرهون حرياتنا: حرية التدين، حرية التعبير، حرية التصويت، والتجمع والاختلاف مع بعضنا البعض» وفي هذه اللحظة الحزينة جفت حلوق الكثير من الأمريكيين.
اللاعب القادم
هل أثبت ابن الأربعة والأربعين عاماً، أسامة بن لادن، أنه هو اللاعب القادم؟ إننا لا نزال نعرف القليل عنه، لقد دخل بن لادن التاريخ عندما كان مقاتلاً في جماعة كانت تتعاون مع وكالة المخابرات الأمريكية CIA ضد السوفيت المحتلين لأفغانستان. هل كان مناهضاً للشيوعية؟ هذا سؤال ليست له علاقة بالموضوع، لم يكن أسامة يريد أن يرى أحداً من الكافرين في العالم الإسلامي.
قائد تحرير
لقد قدم أسامة بن لادن نفسه كقائد لتحرير العالم من الشيطان الأكبر، وذلك في «وثيقة حرب» تتكون من اثنتي عشرة صفحة، وقامت منظمته بنسف سفارتين أمريكيتين في أفريقيا، وضرب المدمرة الأمريكية البحرية في سواحل اليمن. وكما قام كلينتون بتوجيه صاروخ ضرب به مصنعاً للأدوية في السودان، كذلك فعل بوش، إذ وعد الشعب الأمريكي «بحرب سريعة» وليست حرباً جديدة فقط، وفي كل الحالات كما يبدو فإنها ستكون «حرباً طويلة جداً»، وقال أيضاً: «إن الإدارة الأمريكية لن تتحدث عن الخطط التي ستكون لديها.. سنسعى للقبض على زمرة الشر وسيكونون مسؤولين عن كل ما حدث»، ومن ضمنهم كل الذين كانوا عوناً له ومدافعين عنه.
وفي أول أشهر العام 2002 قال البنتاجون إن تدمير أفغانستان بواسطة قواتنا الجوية كان نصراً عظيماً «ولم يذكر أحد أن الأفغان كانوا أعداء لأمريكا». وكانت هذه المأساة مثل تدمير مدينة بأكملها لمطارة المافيا. وفي كل الحالات فإننا لا ندري ما الشيء الذي كسبناه أو خسرناه (باستثناء ما يعرف بوثيقة حقوق الإنسان).
إن أحد أعضاء البنتاجون، رامسفيلد، كان يومياً يهزأ بمجموعات كبيرة من الصحفيين في أوقات البث الرئيسية في التليفزيون، لم يكن يخبرنا عن مكاسبنا أو خسائرنا، لقد كان يعتقد أن أسامة، كان محاصراً في أحد الكهوف على الحدود الباكستانية مع أفغانستان، وليس مقيماً في أحد قصور ماليزيا أو أندونيسيا، وهما دولتان يحبهما أسامة ولا تعجب الأمريكيين.
ومن الطبيعي أن نفهم أن أسامة يكره الولايات المتحدة كرمز وكحقيقة، وأطلق أسامة على العدو اسم «التحالف الصهيوني الصليبي»، وهو بهذا قدم نفسه للآخرين، وأعلن أنه سيشن حرباً على الولايات المتحدة «رأس الحية» كما يسميها.
إن كلمة «الصليبي» تعني الخيانة، ومن وجهة نظر كثير من المسلمين فإن الغربي النصراني، وهو المتحالف الآن مع الصهيونية، حاول منذ آلاف السنين ولا يزال السيطرة على أرض الأمة الإسلامية ومقدراتها.
صلاح الدين
كان صلاح الدين كردياً عاش بين عامي 1138 1193م، وفي القرن الذي سبق ولادته كان النصارى قد أسسوا مملكة في القدس، وهو ما يمثل تخوفاً ورعباً شديداً بالنسبة للمسلمين أعد صلاح الدين جيشاً لطرد الصليبيين وفتح به مصر، واستولى على سوريا، وحطم مملكة النصارى في القدس في حروب دينية أظهرت المسلمين على الصليبيين. وقام بتوحيد العالم الإسلامي، وجعل ريتشارد قلب الأسد يستسلم وهو الجنرال والمقاتل الأفضل في وقته. وكما يقول أحد المؤرخين فإن صلاح الدين وحّد المسلمين وجعلهم يقبلون التضحية للهدف الأسمى الذي كانوا يقاتلون من أجله.
ويمضي الكاتب إلى جزئية أخرى فيقول: إن إدارة بوش، مزقت كل الاتفاقيات التي كانت تشترك فيها الأمم المتحضرة، مثل معاهدة كيو تو واتفاقيات نزع الصواريخ النووية مع روسيا. وأنصار بوش والمؤيدون له شرعوا في حرب تكلف الدولة ثلاثة بلايين دولار شهرياً، وقد منحوا وكالة المباحث الفيدرالية FBI ووكالة الاستخباراتCIA الضوء الأخضر في أن يقوموا بعمليات القتل والتصفية، وفي هذا الصدد يقول الرئيس بوش للعالم: «إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهابيين ضدنا»، وكأنه يطلب من العالم بهذه المقولة أن يكونوا كلهم مع الإرهابيين.
حرياتنا هشة
إن هناك علامات تبعث على الشؤم، تشير إلى أن حرياتنا الهشة تعيش في حالة خطر منذ السبعينيات عندما اكتشف أصحاب القمصان البيضاء والبدلة الزرقاء، وكالة المخابرات الفيدرالية FBI الذين ولدوا في أحضان جنرالات درسوا القانون والمحاسبة، إنهم أصبحوا أمام نوع جديد من المواجهات، وبدأوا يلبسون زياً يوحي بالخوف والرهبة من حيث العتاد العسكري الذي يحملونه، كأن يظهروا بشكل السلاحف السوداء. وفي بداية عقد الثمانينيات تشكلت الفرقة 270 لإنقاذ الرهائن، إحدى فرق وكالة المباحث الفيدرالية.
وكما يحدث غالباً في الولايات المتحدة، فإن هذه الفرقة لم تتخصص في إطلاق سراح الرهائن المحتجزين أو الحفاظ على أرواحهم، بل في الهجوم المميت على المجموعات التي تدافع عنها. لقد حصل ذلك في حادث الديفيديين النصارى (أتباع ديفيد قورش) الذين كانوا يعيشون في أمن وسلام في حيهم السكني في مدينة واكو بولاية تكساس حتى داهمتهم الفرقة مستخدمة الدبابات العسكرية وقتلت 82، منهم 25 طفلاً وكان ذلك في عام 1993م.
وبعد الثلاثاء الأسود فإن هذه الفرقة يمكن أن تستخدم من وكالة المباحث الفيدرالية لملاحقة العرب الأمريكيين، أو غيرهم ممن يشتبه فيه بدعوى مطاردة الإرهاب، وهي الكلمة التي ليس لها تعريف قانوني. لقد قال كلينتون بعد انفجار أوكلاهوما إن الذين لا يؤيدون تشريعاته القاسية هم مؤيدون للإرهاب الذين يريدون أن تكون أمريكا مكاناً آمنا له. إذا كان هذا كلام كلينتون فماذا نتوقع من بوش بعد حادث الثلاثاء الشهير؟
الذين فزعوا من صيحة بوش الابن عندما قال: «إننا الآن في حرب» مع أسامة بن لادن وضعوا الأغطية بسرعة على تفكيرهم الجمعي، ولأن الدولة لا يمكن أن تكون في حرب إلا مع دولة أخرى فلماذا نعلن صرخة الحرب؟
لقد قالت صحيفة «الواشنطن بوست » إنه في ظل القانون الأمريكي فإن الدولة ذات السيادة، (التي لا تحكمها مجموعة من الراديكاليين المتزمتين) هي التي يمكن أن تعلن الحرب، بوش الابن فعلها وهذا يعني الآن أن الضرائب التي ندفعها ستكفل بقاء وثراء شركات التأمين، وهي ميزة لم يحظ بها كبار السن في مجتمعنا.
على الرغم من أن الشعب الأمريكي ليست له وسائل مباشرة في التأثير على الحكومة فإن رأيه يظهر من خلال استفتاءات الرأي، وبناء على الاستفتاء الذي قامت به شبكة سي إن إن CNN ومجلة التايم Time في نوفمبر من عام 1995م فإن نسبة 55% من الشعب الأمريكي تعتقد أن الحكومة الفيدرالية أصبحت قوية ومخيفة إلى درجة تمثل تهديداً لحقوق المواطنين العاديين! وبعد ثلاثة أيام من يوم الثلاثاء الأسود قال 74% من الشعب الأمريكي إنهم يعتقدون أنه من الضروري التنازل عن بعض حقوقهم الشخصية، بينما قال 86% منهم أنهم يفضلون أن تكون هناك أجراس إنذار في البنايات العامة وعند وقوع الأحداث، وفي الوقت الذي يقيم فيه بوليس الدولة في أماكن آمنة ومريحة فلأي منا أن يتخيل ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وهما
الامريكيون شياطين
يبدو أن وسائل إعلامنا الفاقدة للذاكرة نسيت أننا في يوم ما كنا ندعم صدام حسين في حربه مع إيران، واعتقد صدام بشكل غير طبيعي أننا سنسمح له باحتلال آبار النفط الكويتية، وبين عشية وضحاها أصبح الأمريكيون شياطين، وبقيت هذه الصورة مع استمرار الولايات المتحدة في تعاملها مع الشعب العراقي وتضييق الخناق عليه حتى يثور على رئيسه، وهو ما فعلناه مع الشعب الكوبي عندما ضربت الولايات المتحدة حصاراً اقتصادياً صارماً حتى يغضب ويثور ضد كاسترو بعد أن فشل كيندي ورفاقه في قتله إبان العملية العسكرية التي أطلق عليها اسم «عملية النمس». والذي يظهر الآن أن الاستبداد والازدراء الأمريكي تسبب في ظاهرة أسامة بن لادن التي برزت في العام 2001م.
إن صحيفة «النيويورك تايمز » هي وعاء الرأي في الولايات المتحدة، وتريد أن تقف شامخة، أو هي تحاول أن تكون كذلك. لقد كانت افتتاحيات النيويورك تايمز وأعمدة الرأي فيها بعيدة عن الرقابة، كانت النيويورك تايمز مبتهجة بعد الأحداث لأن تكون وعاء الرأي للأمريكيين، ولذلك كانت تزيف الكثير من الحقائق، وتهيج مشاعر الرئيس ومن معه، والشعب الأمريكي بأكمله للشروع في حرب مع المجهول قد تؤذي أمريكا على المدى الطويل، بل في المستقبل القريب أيضاً.
هل علمتم لماذا وسائل إعلامنا فاقدة للذاكرة؟ إنها تتعامل مع الأحداث ولا تحاول أن تقرأ التاريخ القريب لتعرف الأسباب التي كانت وراء الأحداث. إن صدام حسين والشعب العراقي وفيدل كاسترو والشعب الكوبي مثالان يوضحان الفجوة بين معرفة السبب ومحاولة الوصول إلى النتيجة.
إن وليام باف William Paff وكعادته كان هو الكاتب السياسي الذي كانت كتاباته عاقلة ومتزنة وبخاصة مقالته التي نشرها في صحيفة «الهيرالد تربيون »Herald Tribune في 17 سبتمبر 2001. لم يكن كغيره من الكتبة ذوي التفكير المحدود الذين يعشقون الحرب في صحيفة النيويورك تايمز، بل كان فزعاً من رفض رئيس أمريكي خدمة بلده في حرب فيتنام وصراخه لشن حرب ضد رجل واحد وشركائه في الجريمة وليس على أمة أخرى أو حتى دين آخر. يقول باف: «إن الإجراء الذي ينبغي أن تتخذه الدولة المتحضرة التي تؤمن بالله وبالمجتمع الإنساني وتحارب الشيطان هو أن تكون مركزة في تصرفاتها وعاقلة في تدابيرها. الصواريخ أسلحة غير نافذة، وأولئك الإرهابيون على درجة عالية من الذكاء بحيث يجعلون الآخر يتحمل ثمن ما يفعلونه هم ويجيرون النتائج في النهاية لمصلحتهم. إن رد فعل الولايات المتحدة المجنون تجاه ما حدث في 11 سبتمبر ساعد على تغذية مشاعر الغضب والكراهية تجاهها، وهي مشاعر كانت موجودة قبل ذلك. إن ما تحتاجه الولايات المتحدة الآن هو التفكير الهادئ لمعرفة الأسباب التي جعلتها تتعرض لمثل تلك الأحداث، بل عليها أيضاً أن تتنبأ بالكوارث التي قد يحملها المستقبل».
خسارة
إن الدمار المرعب الذي فعله أسامة بن لادن وأتباعه في يوم الثلاثاء الأسود لا يقارن بما أصاب حرياتنا من ضربات قاصمة جعلتها تبدو وكأنها تتلاشى. إن قانون مكافحة الإرهاب الذي صدر عام 1996 والمطالب الحالية من الكونجرس لمزيد من الصلاحيات من أجل التجسس على الآخرين دون أمر قضائي، وترحيل المقيمين الشرعيين من الولايات المتحدة، ومضايقة الزائرين وإغلاق الأبواب دونهم، ورفض المهاجرين الذين لم يثبت رسمياً تورطهم في أعمال إرهابية، كل ذلك وغيره يمثل تهديداً للحريات التي كنا ننعم بها. معتقلات جو انتانامو في كوبا تغص الآن بمئات الأبرياء، ولا أحد يعلم هل المقيمون فيها هم أسرى حرب أم حفنة من الشريرين، وعلى أية حال فإنهم اختطفوا في أفغانستان من قبل القوات المسلحة، والذين يبدو أنهم سيمثلون أمام محاكم الكناغر، إذا قدر لهم أن يغادروا أقفاصهم.
قيود
اقرؤا هذا النص، وهو نص قيل قبل ظهور أسامة بن لادن « إن فرض القيود على الحريات الشخصية، مثل حرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة، وحرية التجمع وإنشاء المؤسسات، والتجسس على البريد الشخصي والتلجراف والاتصالات، وتفتيش المنازل، وأوامر مصادرة الممتلكات، والحجر على الملكيات الشخصية هي إجراءات مسموح بها ولو كانت تمثل خرقاً للقوانين» أليست هذه المقولة مألوفة؟ هل هي مقولة كلينتون؟ أم بوش؟ أم وزير العدل أشكروفت؟ لا إنها مقولة لهتلر في خطاب له طالب بسن تشريع يبيح ذلك كله بدعوى حماية الشعب والدولة! قالها بعد كارثة حريق ريستاج التي أخفاها النازيون وفرضوا عليها سرية تامة. فقط باربرا ليBarbra Lee عضو الكونجرس عن ولاية كاليفورنيا هي التي صوتت ضد منح الرئيس صلاحيات إضافية . وفي الوقت نفسه أظهر استفتاء للرأي أجرته صحيفة النيويورك تايمز وشركة تليفزيون CBS أن ما نسبته 6% فقط يعارضون عملاً عسكرياً تجاه الإرهاب بينما الغالبية كانوا موافقين على خيار الحرب حتى ولو كان ذلك سيؤدي إلى قتل الآلاف من المدنيين الأبرياء.
دوامة
منذ عام 1945، وهو العام الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية وتحقق انتصارنا على اليابان ونحن في دوامة وصفها المؤرخ تشارلز بيرد Charles A. Beard بعبارة «حرب أبدية لسلام أبدي» وكنت أشير إلى ذلك بعبارة «العدو الشهري» وتعني أننا في كل شهر نواجه عدواً مرعباً يجب علينا أن نضربه قبل أن يقضي علينا. لقد وصفني البعض بأنني أبالغ كثيراً، ولكن عليكم أن تتأملوا القائمة التالية التي تبدأ من كوسوفا في عام 1999م وتنتهي بجسر برلين الجوي بين عامي 1948 1949، وهي قائمة أعدها اتحاد العلماء الأمريكيين Federation of Ameri can Scientists وأحصى فيها الحروب والعمليات العسكرية التي اشتركت فيها الولايات المتحدة وكانت بادئة فيها، أو الأعمال العسكرية التي تبنتها بدعوى «حرب المخدرات».........( يتبع)
الكتاب: Perpetual War for Perpetual Peace:
How We Got to Be So Hated.
الناشر: Thunder s Mouth Press.New York
تأليف: جور فايدال
سنة النشر: 2002م.
جور فايدال Gore Vidal
ألَّف 22رواية، و5 مسرحيات، وكتب أكثر من مائتي مقالة مطوَّلة، حائز على جائزة أفضل كتاب على مستوى الولايات المتحدة في العام 1993م. قالت مجلة « نيوزويك » الأمريكية عنه: «إنه أفضل كاتب أمريكي منذ عهد أدموند ويلسن».
من رواياته:
المدينة والنصب التذكاري.
جوليان.
واشنطن، دي. سي.
لينكولن.
الخلق.
الامبراطورية.
هوليوود.
العصر الذهبي.
ومن مسرحياته:
مساء مع ريتشارد نيكسون.
نهاية الأسبوع.
الرجل الأفضل.
زيارة لكوكب صغير.
ومن مقالاته المطوَّلة:
زلزلة المركب.
قضايا في الحقيقة والوهم.
الثورة الأمريكية الثانية.
تصفح التاريخ.
الولايات المتحدة الأمريكية.
|