تمر سيكولوجية الذهنية العربية السياسية في حالة مخالفة تماماً لأجواء ما قبل هزيمة 67، والتي كانت قبل أيام النكسة، متشبعة حتى الثمالة بنخب النصر، ومظاهر القوة وصدى الخطب الرنانة، ولغة تهميش قوة العدو المغيب إعلامياً، والذي كان مصيره، وقدره المحتوم، الرمي في البحر الميت، ثم الفتح المؤزر للأرض العربية المسلوبة، والمضي مجدداً نحو تأسيس المجد العربي التليد..
وبعد صدمة النكسة وهزيمة الأيام الستة، ونهاية الحلم العربي المؤلمة لمشروع الانتصار المحتوم على العدو التاريخي، تفشت وازدهرت ظواهر عدمية سياسية وفكرية وروحية في أوساط النخب السياسية والثقافية، وصارت ذهنية الهزيمة مسيطرة تماماً على مثقفي السلطة في ذلك الوقت، ولم يستطع شبح النصر في أكتوبر من انتشالها من تأثيرات الصدمة السياسية، ولم تلبث إلا أن تهاوت مهزومة بسبب ثغرة الأيام الأخيرة، واتفاقيات الاستسلام العربية المتوالية..
وأدى تكرار طرح تلك الأدبيات السياسية في الوسائل الإعلامية، لخروج نماذج منهزمة من المفكر والسياسي العربي على شاشات الإعلام، امتدت تأثيراتها إلى إنسان الشارع، وساهمت في تفكك المجتمع، و«ضياع» هويته، وتضاؤل إحساس مواطنيه بأدوارهم على مستوى الحدث..
وربما كان نتيجة لهيمنة ذهنية الهزيمة بعد النكسة، وسياسات الاستسلام السياسية والاقتصادية، أكبر الأثر في حدوث صدى لصوت المد الإسلامي الراديكالي، والمتشبع بسلاح الجهاد والقوة وردة الفعل، في المجتمع المهزوم، فبدأ ما أطلق عليه لاحقاً بالحركات الإسلامية السياسية، ودشنتها أصوات عُرف عنها الطرح السياسي اللاعنيف، قبل سنين النكبة وأيام النكسة، ولكن مظاهر القمع والاستبداد، أفرز منها رؤية متفجرة وغاضبة، لا تنسى، ولا تعترف بحق التسامح مع الجلاد والمتسبب في النكسات العربية، فسيد قطب الذي كتب العدالة الاجتماعية في الإسلام، ألَّف «معالم في الطريق» في سجن جلاده، والذي أصبح بسبب «الهزيمة العربية»، أهم كتاب نُشر في القرن العشرين، فخرجت، حركات جهادية سياسية من مفاهيم متجددة لأطروحته الثورية والغاضبة، لها مناهجها ومبادئها، المعلنة منها، والسرية، كردة فعل عنيفة لتلك المشاعر المهزومة والتي تنبعث من بين قسمات وجه المثقف العربي الرسمي، والأحداث التدميرية التي توالت نتيجة لرد فعل «إنسان الشارع»، جاءت بعد سلسلة من الإحباطات، وخيبات الأمل والفشل التراكمي على مستويات الاقتصاد والسياسة والثقافة..
والمتابع في الوقت الحاضر، لتعليقات وتبريرات المثقفين «الرسميين» في القنوات الإعلامية العربية، يسمع طرحاً، يستمد جذوره من مرحلة ما بعد النكسة، ويظهر في مضامينه، حجم سيطرة القدرية السياسية على تحليلاتهم، فأمريكا حسب وجهة نظرهم، قادمة لا محالة لتحتل العراق، وتستولي على ثرواته، ثم لتهاجم مصادر الإرهاب السلفي في الدول المجاورة في المنطقة، وترسم بعد إتمام سيطرتها، خرائط دولها من جديد، ومشاعر الترهيب ومظاهر القدرية السياسية، خرجت تحت تأثير سيكولوجيا القوة، والحديث المبالغ فيه حول نظام القطب الأوحد المستبد في وسائل الإعلام الأمريكية، فقد بدأت تحت ذلك التأثير المبرمج، أدبيات ذات اتجاه محدد تصور الأمر وكأن أمريكا المتحدة تسيطر على البشر سيطرة قدرية تطلع من خلالها على القلوب، ومع التقدم التكنولوجي، والحرب الإعلامية التي أعطت لأمريكا «وهم الدولة كلية القدرة»، في التحكم بالعالم، والاطلاع على أدق أسراره، أفراداً وحكومات، فأصبح هذا الطرح مبرراً للاستسلام الكامل لأمريكا، وأنه لن يستطيع أحد مواجهة الإرادة الأمريكية، وبالتالي فلا بد من الخضوع للنموذج الأمريكي في السياسة والاقتصاد والثقافة،..
والفعل الانهزامي الأولي على المستوى السياسي والثقافي، وردة الفعل الشعبية والتدميرية، والمتمثلة في أوج عنفوانها في حادثة «11 سبتمبر»، يؤديان إلى نفس النتيجة العدمية، فذهنية «أنا مهزوم، إذن أستسلم» لجبروت الآلة الأمريكية وهيمنة ثقافتها، تؤدي إلى «ضياع» الهوية واضمحلال الروح وضياع ماهية الإنسان العربي المسلم، وذهنية «أنا أقتل إذن أنا موجود»، تؤدي إلى نفس النتيجة، ومن خلال وسائل مختلفة، ستصل بنا إلى عدمية، غايتها الخلاص من مشاعر الهزيمة والاستسلام من خلال المقاومة اللانظامية لقوى التدمير الخارجية، وإن أدى ذلك إلى تدمير الذات..
وفي جانب آخر، وجدت منذ القدم العدمية التدميرية «الغربية» نحو الشرق، والمتمثلة في الغزو الأمريكي المكثف في الوقت الحاضر، تحركها مصالحها، ورغبتها في التوسع والسيطرة، واجتياح الأمم الضعيفة، وهي غير مستعدة للتراجع أو الانهزام أمام صوت العقل في ثقافتها، لكنها على الرغم من استمرار شراستها في تاريخ البشرية، لا تزال تواجهها مقاومة حادة، وترفع نفس شعار «أنا أقتل إذن أنا موجود»، والخيار المطروح أمام المقاومة، هو بين «تدمير التدمير أو تدمير الذات..»
ويمكن لنا رؤية تلك الصورة النمطية في أغلب مشاهد الصراعات العربية، سواء على أرض فلسطين، أو في حالة أفغانستان أو في خطط السعي الغربي نحو السيطرة على العراق وثرواته، وأيضاً يوجد لها صور متنوعة، ومعبرة في حياة الاقتصاد والثقافة، فالهزيمة أمام متطلبات الغرب حسب نظامه العالمي الجديد، وانفتاح الأنظمة الاقتصادية على مصراعيها لدخول «القوى الاستثمارية الأجنبية» بدون ضوابط إلى السوق الوطنية، ثم تساقط فرص العمل من أيدي المواطن العربي، والمستثمر المحلي، سيولد نتائج تدميرية على جميع المستويات.
وسيخلق ردة فعل أكثر ألماً من تبعات الهزيمة السياسية، قد تتفاوت بين فقر شديد، وبين مقاومة متجددة على النمط الانتحاري..، والمؤكد أن غياب مفهوم الوطن على أرض الواقع، ومن استراتيجية قرارات الاقتصاد والسياسية، والتي من المفترض أن تصب أهدافها في مصحلة المواطن أولاً هو أحد أسباب بعث مشاعر العدمية وفقدان الهوية، وسطوع نجم ظاهرة «عليَّ وعلى أعدائي»..
والحداثة الغربية التي «نمجد» منتجاتها كالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، هي ذاتها التي تحمل إلينا الآن بذور الشر والتفكيك، وهي التي جعلت الحياة خاضعة لمنتجات التقنية والسلطة، ومبررة للقمع والاستغلال، وهي التي يعتقد الغرب تميزه بها، ويعاقبنا على عجزنا عن التواصل معها، والوصول إلى منتجاتها، تارة بالحرمان من ثرواتنا الخام في جوف الأرض، وتارة أخرى بالقتل والتدمير أو الظلم في قضايانا العادلة، وهي أيضاً التي أنتجت لنا جيلاً من المفكرين، ينحني أمام حتمية القدر الأمريكي المزعوم، وجيلاً من المقاومين ينتحر نشوةً بمرارة الهزيمة، وتلك جدلية فلسفية، لن نتوقف عن العجب من تناقضاتها في المضمون والتطبيق، ولا من الإحساس بالألم بسبب تأثيراتها السلبية على إنسان الشارع العربي..
|