الفرق بين الموضوعية والعاطفية هو الفرق بين أن تعالج أمورك بحكمة، وبين أن تعالجها بانفعال. أو بين أن تتعامل معها منطلقاً من «الرغبوية» وبين أن تعالجها منطلقاً من «الواقعية» مهما كانت هذه الواقعية مريرة. هذا في تقديري إيجاز دقيق وغير مخل بين المصطلحين. وللتوضيح أكثر، افترض أن هناك رجلين أرادا السفر جواً إلى مدينة ما. وعندما قدما إلى المطار وجدا أن الرحلة قد ألغيت. أحدهما، عاطفي، ملأ المطار ضجيجاً، واعتراضات، وصياحاً وهياجاً، وراح يحاول أن يتشفى، ويفش«خلقه» بموظفي المطار على هذا الإلغاء، دون أن يعرف، أو يحاول أن يعرف، الأسباب التي أدت إلى إلغاء الرحلة، ليكتشف في النهاية أن الوقت الذي أمضاه في هياجه وغضبه، قد فوّت عليه إمكانية أن يجد مقعداً في رحلة أخرى إلى نفس المكان.. الآخر، موضوعي، بمجرد أن علم بإلغاء الرحلة، بدأ يسأل عن أية رحلة أخرى ستسافر إلى هذه المدينة، وراح يحاول أن يستفيد من وقته بأن يجد له مكاناً فيها، ويرتب حجزه من جديد، وأن يتلاءم مع الوقت الذي سيمضيه حتى الرحلة الجديدة.
ومشكلة أغلب المحللين السياسيين العرب الذين يتناولون الشأن العربي الأمريكي يتناولونه للأسف من منطلق عاطفي، فيملؤون الدنيا ضجيجاً واعتراضات، ولطم خدود، دون أن يتفهموا الأسباب والمنطلقات التي جعلت الإدارة الأمريكية تنحاز للإسرائيليين ضد العرب رغم عدالة وإنسانية الحقوق والمطالب العربية.
وأنا هنا لا أبرر المواقف الأمريكية المتعسفة ضدنا، بقدر ما أحاول أن أدعو إلى التعاطي معها بموضوعية ليتسنى لنا التعامل معها بإيجابية. فصانع القرار في البيت الأبيض يعلم يقينا أن ما يطالب به العرب، وبالذات ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، هو عين الحق. غير أن صناعة القرار والموقف السياسي الأمريكي لا تتكىء على الحقوق والعدالة بقدر ما تراعي توجهات ومطالب قوى الضغط والنفوذ، وأصحاب المصالح، داخل الولايات المتحدة نفسها. وأدلُّ دليل على صحة ما أقول أن أغلب الرؤساء الأمريكيين، كالرئيس كارتر، والرئيس كلينتون - مثلاً - تكون لهم مواقف داعمة لإسرائيل عندما يكونون داخل رواق السلطة، وسرعان ما تتغير هذه المواقف بشكل مضاد حينما يصبحون خارج السلطة. والأمر لا يتوقف على الرؤساء، وإنما يمتد ليشمل الوزراء والسفراء وأركان الإدارة أيضاً.
ومثلما أن أسلوب لطم الخدود هذا لم يغير من الواقع شيئاً، فإن سياسة التحدي والمواجهة والعنتريات الفارغة، هي الأخرى لن تجدي أيضاً. فقد جربها عبدالناصر عندما وعد بأن يلقي بإسرائيل إلى البحر، فكانت سبباً رئيسياً لهزيمة 67 المهينة. وجربها صدام حسين وهاهو على وشك أن يسقط هو ونظامه. كما امتشق بسيفها الملا عمر في افغانستان فجاء الأمريكيون إلى عقر داره، وانتقل هو إلى كهوف الجبال على أحسن تقدير.. وفي المقابل جرب السادات أسلوب الحوار، وإدارة الصراع من خلال الدبلوماسية وطاولات السلام، فحصل على سيناء كاملة. هذه حقائق وليست تخرصات. فالسياسة هي «الرأي»، وفن الممكن، واستخدام الوسائل التي من شأنها تحقيق الأهداف. أما الشجاعة، والشرف الذي لن يسلم حتى يُراق على جوانبه الدم، فهما اليوم أكثر من أي وقت مضى في «المحل الثاني» كما كان يقول شاعرنا العظيم المتنبي.
إن مواجهة إسرائيل الواقعية والموضوعية تحتم علينا أن نتسلح بدعم العالم السياسي لنا؛ وهذا لن يتحقق على المدى القريب إلا بانتهاج سياسة المفاوضات والسلام خياراً، من خلال إجبار الإدارة الإسرائيلية على التفاوض والرضوخ إلى الحوار. ولعل أكثر من يدرك الآن الفرق بين أن تناطح الصخرة، أو أن تميل عنها وأنت في صراعك للبقاء، الوعلُ الذي أوهنَ قرنه ذات صباح، وصدام حسين.
|