نختتم بهذا المقال ما بدأنا به مجموعة من المقالات السابقة حول آلية ومنهجية التصميم وما يتعلق بكيفية تبلور التصميم والعمل المعماري، حيث طرحنا مجموعة من الأفكار في كيفية بدء التصميم وتطور الفكرة المعمارية وعلاقة الشكل بالوظيفية بالإضافة إلى أهمية الفكرة المعمارية كنقطة الانطلاق وكمصاحب لعملية التصميم لا كتابع ومبرر لها.
وفي هذا المقال نلقي الضوء على بعض الأفكار المتعلقة بالعوامل التي تؤثر في تبلور الفكرة المعمارية وتساعد على توجيه الفكرة المعمارية إيجاباً مما ينبغي على المصمم أخذها بعين الاعتبار كي يتسنى تحقيق أكبر قدر من التفاعل بين عناصر المشروع الوظيفية وبين المجاورات البيئية والحضرية وغيرها، وهي من أبرز عوامل التصميم الحضري الذي لا يمكن ان يتم بمعزل عن المحيط فيزيائياً وضمنياً.
فما هي العوامل التي ينبغي مراعاتها لدى الشروع بالتصميم الحضري والتي يمكن ان تشكل الخط الأول في تكوين الفكرة المعمارية؟
يمكن تقسيم مجموعة العوامل الأولية هذه - والتي نسميها الخط الأولي للفكرة المعمارية والتي تتشكل بالمعطيات التي تفرضها محددات حسية للمشروع - إلى نوعين الأول مجموعة العوامل الثابته، والأخرى متغيرة.
ويمكن القول بداهة ان التصميم ينبغي ان يكون انعكاساً مباشراً لهذه العوامل الثابثة والمتغيرة. أما الثابتة فتشمل خصائص الموقع وطبوغرافيته وعوامل الطقس وحركة الشمس النهارية وموقعها من المبنى، إضافة لحركة الرياح وطبيعة المؤثرات المجاورة وإطلالة الموقع كالمناظر المحبذة أو التي ينبغي التواري عنها، وكذلك الشوارع المحيطة والتي تؤدي من وإلى الموقع وغيرها.
أما العناصر المتغيرة فتشمل الفكرة المعمارية والبرنامج الوظيفي. وقد تطرقنا في المقالات السابقة إلى الشق الثاني المهم وهو العوامل المتغيرة والمتعلقة بالفكرة والتي يتمحور التصميم حولها.
أما في هذا المقال هنا فنسلط الضوء على مجموعة العوامل الثابتة، ونقصد بالثابتة انها محددة نسبيا وانها إحدى المعطيات الطبيعية التي يفرضها الموقع بمحدداته وجغرافيته وطبوغرافيته على المصمم بما يصعب تلافيها، وغالبا ما تتبلور على شكل مجموعة من التحديات والمشكلات ابتداء والتي - خلافاً للعوامل المتغيرة التي تشكل حواراً جدلياً - تشكل حواراً عقلانياً بين المصمم وبين هذه العوامل الأساسية المنطقية الطبيعية.
ولاستعراض هذه العوامل وأمثلة عليها نبدأ من أبسط الحالات والمعطيات التي تواجه المعماري المصمم.
معلوم ان المشروع الحضري لا يتم في فراغ، بمعنى انه لا بد من مقومات حسية يطلب من المعماري المصمم تحقيقها، وهذه تتطلب وجود موقع محدد بأبعاد وخصائص جغرافية. ومن المهم في استكشاف الموقع ملاحظة البدائل التي توفرها شبكة الطرق المؤدية للموقع في التأثير على المداخل وكيفية تحديد المداخل والمخارج للمشروع، ويستتبع ذلك ملاحظة الطرق الرئيسة والفرعية للموقع مما قد ينعكس على التكوين الداخلي أو التوزيع المناطقي وتحديد حركة المشاة والحركة الآلية داخل الموقع والمشروع. والأهم من ذلك هو وجود أو عدم وجود مناظر أو اطلالات مستحبة بحيث تؤثر في توجيه بعض الفعاليات الداخلية إليها كوجود نهر قريب أو عناصر نباتية طبيعية وغيرها. وإضافة إلى ذلك فقد تشكل طبوغرافية الموقع ذاته إحدى المؤثرات القوية في تشكيل التركيبة الداخلية لعناصر المشروع العضوية. فمثلا وجود المشروع على شارعين أحدهما ذو منسوب أعلى من الآخر قد يوجه التصميم باتجاه وجود مدخلين للمشروع مع الربط الرأسي بين الطوابق المختلفة كأحد الأفكار المهمة بالمشروع. أو يمكن في حال بعض المشاريع الحضرية تحقيق وصلة حضرية كامتداد للطريق العام من خلال المشروع ان كان المبنى ذا وظيفة تتعلق بالعموم كمباني المكاتب العامة أو البازارات أو الأسواق أو المباني متعددة الاستعمالات.
وجدير بالذكر ان هذه الأمثلة أو المقترحات هي نتاج خبرة عملية وليست معلومات نظرية أضعها بين يدي القارئ الكريم من معماريين مصممين أو طلاب للعمارة ممن لا يزالون على مقاعد الدراسة بالجامعات أو من المهتمين من القراء الذين قد يصبح بعضهم من الملاك لبعض هذه المشاريع.
الشاهد من هذا كله ان الأفكار المبدعة والخلاقة هي نتاج العقبات التي تفرضها مجموعة العوائق الثابتة. ومن هنا فإن الموقع «البسيط» وذا المكونات القليلة هو أقل المواقع قدرة على وضع البدائل أو الأفكار على طاولة التفكير للمعماري أو المصمم.
وفي الحقيقة فإن هذا الموضوع طويل وذو شجون، ولذلك فبدلا من الأمثلة النظرية البعيدة عن ذهن القارئ وخصوصاً من غير المتخصصين فسأعمد إلى تسليط الضوء تالياً على موضوع البيت وتصميمه مما يهم الكثيرين منا، وخصوصاً بعض القراء الكرام الذين بدأ النعاس يساورهم ويتسلل إلى جفونهم.
وتاليا سأوضح أهمية العوامل الثابتة في تصميم البيت بما ينير أفق من ينوي تصميم بيته بحيث ينبه المعماري لبعض النقاط التالية، معلومة أهمية الشمس والريح بالذات في توجيه بعض الفعاليات ضمن البيت. فحركة الشمس اليومية ذات أثر في توجيه الغرف المختلفة ضمن البيت، إذ ان الشمس تشرق في الصباح من الشرق وتعلو في الأفق بزاوية مائلة باتجاه الجنوب مع مرور ساعات النهار لتغرب من جهة الغرب، وهذه الحركة اليومية تعني ان الواجهتين الشرقية والغربية تتعرضان للشمس ساعات محدودة، بينما تتعرض الواجهة الجنوبية للشمس أطول ساعات النهار ولا تتعرض الواجهة الشمالية لأشعة الشمس على الاطلاق في أي وقت من النهار. من ذلك يمكن تبين ان أشعة شمس الصباح قد تكون محبذة لمن يفضل الجلوس في المطبخ صباحاً وخلال ساعات النهار وبذا يكون توجيه المطبخ المحبذ هو الجنوبي الشرقي. فيما يمكن توجيه صالات الجلوس والمعيشة بالاتجاه الجنوب الغربي لالتقاط أشعة الشمس والتمتع بمناظر الغروب الجميلة. وكذلك يمكن تبين ان أفضل توجيه للخدمات وغرف التخزين والأدراج هو الشمال حيث لا تصل أشعة الشمس مباشرة انما الذي يصل هو وهج ضوء النهار فقط.
ولكن هذه التوجيهات المحبذة هي مثالية وليست بالضرورة هي الأمثل في بعض الحالات، إذ ان عامل التوجيه بالنسبة للشمس ليس هو الوحيد الذي يتحكم في التوجيه للعناصر، فاتجاه الريح قد يلعب دوراً مهماً مماثلاً، وبخاصة لتفادي حركة الرياح داخل البيت والتي قد تنقل رائحة الطعام للغرف الأخرى ضمن المنزل، أو قد يتحكم موقع المدخل أو الشارع بالنسبة للبيت في توزيع بعض العناصر وهكذا، أو قد يكون موقع البيت بالنسبة لأحد المتنزهات أو المناظر الطبيعية أو العناصر الطبيعية كالاطلالة الجميلة على موقع مياه أو نباتات وغيرها من الأهمية بمكان ليغلب الفكرة المعمارية على التوزيع الفيزيائي للعناصر الثابته وهكذا.
ولذلك من المناسب تماماً القول إن عملية التصميم هي أشبه ما تكون بحل معادلة ذات مجموعة من المتغيرات أو المجاهيل والتي تتطلب حلها كمجموعة متشابكة إذ لا يمكن حلها ولا تقبل الحل منفردة. ولذلك فالفكرة المعمارية قد تستند إلى واحد أو أكثر من العناصر الثابتة أو المتغيرة التي تتطلب تحقيقها في المشروع . ولا يعني ذلك إهمال العناصر أو المتغيرات الأخرى ولكن تأخذ مجموعة العناصر هذه التي تشكل الفكرة المعمارية أفضلية وأولوية على غيرها، وتظل عملية التصميم بين مد وجزر بين متطلبات المالك وقدرات المعماري ومهاراته وخبراته لتحقيق أفضل الحلول، وتظل عملية التصميم نسبية على أية حال.
ملحوظة: جميع الدراسات التحليلية المرفقة من اعداد المعماري راسم بدران.
|