في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية أقيم معرض للخط العربي، باحتفاء الذاكرة على ريشة فنان عالمي كان ضرباً من الأمل أن يحظى مجتمع الثقافة، والفكر، والأدب بوجوده.. هذا الفنان هو الدكتور «فؤاد هوندا» الخطاط المسلم الياباني الذي جعل من القرآن الكريم منطلقاً لأن يحتوي خطَّه فيمنحه اللَّه تعالى به نوراً، ويزيده به سروراً، ويمكِّنه حضوراً..
مركز الملك فيصل ضمن نشاطاته المثمرة، والحصيفة، والدَّائمة جاء بهذا الخطاط.. فقدم خلال الأسبوع الماضي معرضاً شمل لوحاته ذات الأحجام والألوان والأبعاد والأسلوب سوراً من القرآن الكريم، أجمل ما في هذه اللَّوحات إلى جانب مضمونها أنَّها تمثِّل مضامين السور القرآنية التي كتبها الدكتور هوندا بخط عربي شمل في مدرسته كافَّة أنماطه، وكانت لوحاته إبداعاً يكاد أن يتفرَّد عن نظائره، فهو يكتب السُّور القرآنية بفنية بعيدة، تبدأ من أسفل اللَّوحة وتنتهي بموضوعها، فتلك المجرات في السماء، وتلك القواقع في البحر، وتلك الأرض المنبسطة دون سند، وتلك السموات الممتدة في الأفق دون عمد، وتلك البحور طبقات وطبقات، ومشكاة نور اللَّه جل جلاله وتقدَّست أسماؤه وعزَّ على خلقه تمثيله.. بألوانٍ منتقاة بفنية، في أحجام لا يكاد يحترف تطويعها إلاَّ ذو بصيرة، ومن يُمكِنه أن يجعل القرآن العظيم يشغله عمَّا سواه ويكون مادة عمله وموهبته ولا تُضاءُ له السبل، وتنبسط له الوسائل، وتتطوع له الأقلام؟...
هذا المعرض للخط العربي حقق أكثر من هدف، أوَّل هذه الأهداف: التذكير بمكانة الخط العربي الذي أصبح شيئاً من التراث، ثمَّ استنهاض الاحساس به يأتي في معيَّة الحنين، عند ذكر القوافل تلك التي عبرت بكثير من «أشيائنا» الحميمة في تاريخنا الذي لا تزال تحمله الأسفار، ولا يزال مادة للأخبار، ولا يزال من الناس من يعرف له قدْره، ويقوِّم له دوره، لذلك وجدنا رجلاً يابانياً مسلماً يجعل من الخط العربي مدرسته ودراسته، عمله وعلمه، موهبته، وامتاعه، وهو بذلك يحقق كلَّ المكاسب معاً، ما هي له في دنياه وما هي له في آخرته. والهدف الثاني الذي حقّقه هذا المعرض أنَّه أثبت أنَّ النشاط الثقافي في مجتمعنا هناك من يضطلع على برمجته ومنهجته بشكل نافع وقادر على تجاوز التسطح والهامشيات لكثير من النشاط الذي تُهدر له المادة والوقت وجهد الأفراد، ولا تؤتى له ثمار. بينما هذه الأنشطة التي يقدمها مركز الملك فيصل بلا ريب بعيدة الأثر في إعادة بناء الذَّائقة الثقافية والنقدية والعلمية والمعرفية بشكل عام.. ولعلَّها أن تكون محور اهتمام الغالبية من الناس وليس الخاصة. إذ في يوم النساء ما وجدت العدد الذي أجده عند قيام ندوة أو أمسية شعرية، أو عرضاً ترفيهياً..، إنَّ التَّسابق في الظاهرة «الترفيهية» في مجتمعنا مع الأسف يحظى به نشاط العدد الأكبر بينما التّسابق لحضور مثل هذا المعرض القيِّم على كافَّة الأوجه لم يكن ذا بال.
ولعلَّ الدكتور «هوندا» بعمله الإبداعي الفذ قد بعث الحنين للخط العربي.. ذلك الذي يأسى على استبداله بحروف تبصمها أزرَّة تحت أصابع القوم.. وقد هجروا أقلامهم، وجفَّت أحبارهم وجاء لهم رجل من اليابان يبعث في صدورهم الحنين، ويذكِّرهم بلوحاته القرآنية بما هو بين أيديهم.. وهم لا يشعرون.
تحية لمركز الملك فيصل جهوده الجبارة.. ذات الأهداف، في بذلٍ سيترك بصماته بلاريب فوق جبهة هذه المرحلة.
وتحية للدكتور فؤاد هوندا،
وللخطاطَيْن العربيَين طاهر عمارة، وناصر الميمون،
وللخطاط الباكستاني أحمد عزيز
أن كان لوجودهم ما يبلُّ شيئاً من جفاف الإحساس بفراغ المكان، في حضور «هوندا».
| 
