* القاهرة - مكتب الجزيرة - محيي الدين سعيد:
جاء توقيع اتفاق مشاكوس في 20 يوليو 2002 بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية كواحد من اهم الاحداث في تاريخ الازمة السودانية المستمرة منذ نحو قرن من الزمن، وايضا كواحد من اهم الأحداث التي مرت بالامة العربية في العام 2002، فقد حمل الاتفاق معه آمالا واسعة في تحقيق السلام على الاراضي السودانية لكنه حمل مخاوف اوسع على مستقبل السودان ووحدته خاصة ان الاتفاق يحمل في طياته حق تقرير المصير للجنوب السوداني.
وبين اعلان السلطات السودانية تعليق استئناف مفاوضات السودان بعد احتلال الحركة الجنوبية بقيادة جون جارانج لاحدى المدن الاستراتيجية في جنوب البلاد والعودة مرة اخرى لتوقيع اتفاق مشاكوس 2، اثيرت العديد من الملاحظات والتحليلات وفي مقدمتها الحديث عن تدخل وضغوط امريكية من اجل عقد هذا الاتفاق، الى جانب تجاهل أطراف رئيسية في الصراع السوداني وأطراف رئيسية في المحيط الإقليمي له وفي مقدمتها مصر وليبيا.
فمن ناحية ثارت الهواجس فور ورود انباء الاتفاق بصورته التي تم التوقيع بها عليه في مدينة مشاكوس الكينية حول تهميش الدور العربي بشكل عام والمصري بشكل خاص في العملية التفاوضية الجارية في السودان وأثار ذلك المخاوف لدى الشارع العربي والإسلامي من اهداف غربية وأمريكية بشكل خاص تسعى الى تقسيم السودان وطمس هويته العربية وخاصة ان حق تقرير المصير الذي اكد عليه الاتفاق لا يعني سوى الانفصال وتقسيم السودان وان كانت هناك مهلة زمنية - ست سنوات - لتقرير ذلك بشكل نهائي.
ورد المؤيدون للاتفاق سواء في السودان او خارجه على هذه المخاوف بالتأكيد على ان السنوات الست هي فرصة ذهبية يمكن لحكومة الخرطوم استثمارها في اتجاه بناء الثقة مع ابناء الجنوب وتعزيز خيار الوحدة على اساس تحقيق مطالب الجنوبيين في المساواة في الحقوق والواجبات.
ونظرة على مواقف الأطراف السودانية المختلفة تكشف عن ان هناك تباينا واضحا حدث عند الاعلان عن الاتفاق تجاه ما ورد منه من نصوص، فقد اعتبرت عشر مؤسسات من مؤسسات المعارضة السودانية الى جانب التجمع النسائي السوداني ومنظمات المجتمع المدني ان برتوكول مشاكوس يشكِّل خطوة اولى وبداية لجهد يستهدف تحقيق سلام عادل وشامل اذا ما استوفى التدابير الكفيلة لانجاحه وجرى الوفاء بمقتضيات انهاء الحرب وتحقيق الوحدة الطوعية والسلام الاجتماعي.
وأكد الموقِّعون على نداء اصدروه في هذا الصدد على ايمانهم بحق ابناء جنوب السودان في ادارة شؤونهم والتمتع بحقوقهم الديمقراطية التي تكفلها المواطنة كأساس دستوري وحيد.
لكن الموقِّعين على البيان احتجوا على ان اطراف البروتوكولات - الحكومة وحركة قرنق - يمثلان جزءا وليس كل الشعب السوداني كما ان القضايا التي تصدى لها البروتوكول لا يمثل كل القضايا المصيرية للسودان، محذرين من ان عدم مشاركة كل القوى السياسية بشكل فعَّال واصيل في تعاون تعني انه لا امل في ارساء دعائم السلام في السودان.
ولم ينس الموقِّعون على البيان التأكيد على مواصلتهم النضال الوطني بشأن الوسائل السلمية لاستعادة الديمقراطية والحرية والسلام لتحقيق التنمية وبذل المزيد من الجهود من اجل ايقاف الحرب المدمرة ورفع حالة الطوارئ وإلغاء القوانين المقيدة للحريات والعمل على قيام حكومة قومية انتقالية وتكون تعبيرا عن تمثل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والرموز الوطنية.
كذلك وجَّه سته عشر من الحقوقيين السودانيين ومؤسسات المجتمع المدني نداء آخر الى طرفي اتفاق مشاكوس والوسطاء الدوليين والإقليميين وكل القوى السياسية والنقابية والاجتماعية السودانية داخل أو خارج السودان للإسهام في حملة فعَّالة لضمان مشاركة كل القوى السياسية السودانية في صنع اتفاق السلام وضمان المناخ الديمقراطي لتلك المشاركة وأكد النداء ان إقصاء القوى السياسية والاجتماعية يجعل البروتوكول مفتقرا الى شرعية الاجماع الوطني التي تمثل اهم ضمانات تنفيذه كذلك اعتبر النداء ان البروتوكول لم يعالج قضايا الفصل بين الدين والدولة والديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة.
التباينات لم تقتصر بدورها على الساحة السودانية الداخلية لكنها امتدت الى خارجها خاصة في مصر حيث بدت الساحة السياسية والثقافية منشغلة بشكل كبير بمجريات الاتفاق وتوابعه وشهدت القاهرة في الفترة التالية لعقد الاتفاق كما هائلا من الندوات والمؤتمرات دعت اليها الاحزاب السياسية والنقابات المهنية ومراكز البحث المختلفة وبدا واضحا خلال هذه الفعليات ان هناك مخاوف مصرية كبيرة ازاء الاتفاق لكن ذلك لم يخل من ترحيب في اوساط عديدة به والتقليل من مخاطره على الامن القومي المصري والعربي.
فقد ارجع عدد من المحللين عقد الاتفاق الى سببين رئيسيين اولهما عجز طرفي النزاع - الحكومة وحركة التمرد - عن حل المشكلة السودانية سواء عن طريق السلاح والقوة العسكرية او عن طريق صناديق الانتخابات. اما الأمر الثاني فهو الضغوط الأمريكية الهائلة خاصة في اعقاب 11 سبتمبر وظهور البترول بشكل كبير في الأراضي السودانية.
ونبَّه المحللون الى ان حق تقرير المصير الذي تناوله الاتفاق لا يعني سوى الانفصال ونشأة دولة جديدة تنضم الى دول حوض النيل، مدللين على ذلك بأن نصوص الاتفاق قصرت هذه النقطة على احد بديلين لا ثالث لهما وهما الوحدة الوطنية او الانفصال، في حين ان هناك اشكالاً متعددة لحق تقرير المصير مثل الفيدرالية والكونفدرالية والحكم الذاتي.
كذلك غلف المحللون مخاوفهم بالتحذير من انتقال عدوى الحالة السودانية في حالة تحقيق الانفصال الى معظم دول القارة الأفريقية التي تعاني من مشكلات شبيهة.. مشيرين في ذلك الى الدعم الأمريكي والأوروبي لحركات الانفصال المشابهة بهدف السيطرة على ثروات وموارد القارة السوداء.
وذهب المحللون الى ان الاتفاق لا يقدم ايه ضمانات لتحقيق الوحدة في حين يقدم الواقع معطيات كثيرة على حدوث الانفصال خاصة مع رغبة قرنق في السيطرة على السودان بأكمله بعد بناء قوته في الجنوب بدعم امريكي.
لكن محللين آخرين رأوا ان قرنق رجل وحدوي ولا يسعى الى فصل جنوب السودان عن شماله وقللوا من شأن الرغبة الأمريكية في تقسيم السودان مشيرين الى ان الولايات المتحدة تسعى الى الهيمنة على بترول السودان كاملا في شماله وجنوبه الى جانب ان جنوب السودان نفسة يعاني من صراعات اجتماعية بين فصائل وجماعات مختلفة وأنه في حالة قيام دولة في الجنوب فلن تتوقف هذه الصراعات.
من جانبها قللت الحركة الشعبية على لسان ممثلها في القاهرة والخليج جون كورج من المخاوف التي أثيرت في المنتديات المختلفة واعترفت بأن اهم عيوب الاتفاق تتمثل في استبعاد بقية الأحزاب والقوى السياسية السودانية منه مما يقلل من شمولية الحل الذي تحمله نصوص البروتوكول.
ويرى المراقبون ان اتفاق مشاكوس من الأحداث المرشحة للاستمرار في العام الجديد 2003، خاصة مع الاهتمام الأمريكي بالسودان والمتوازي مع الضربة العسكرية المتوقعة للعراق مشيرين في ذلك الى إرسال واشنطن مبعوثاً خاصاً بها إلى السودان ثم رعايتها لمفاوضات مشاكوس واخيرا إصدار قانون سلام السودان في 21 اكتوبر 2002 الذي وصفه بعض الدبلوماسيين السودانيين بانه قانون حرب للسودان وليس سلام لها.
وردت الخارجية السودانية عليه ببيان حاد ذكرت فيه انه لم يحدث خلال السنوات الاخيرة صدور قرار من الكونجرس الامريكي يصل الى هذا الدرك من الامعان فى المعلومات الخاطئه والمضللة على النحو الذي حدث في الجدل الدائر حول ما يسمى بقانون «سلام السودان» وتساءل البيان عن المبرر الاخلاقي الذي يدفع بالجهاز التشريعي في القوى العالمية الكبرى لادارة سياسته الخارجية بشكل يحوى التدخل في تحديد مصير دولة ذات سيادة يقطنها 35 مليون نسمة، مشيرا الى ان الكونجرس الأمريكي اصدر من قبل 39 قرارا حول السودان كانت جميعها على تلك الشاكلة وكانت جميعها تستند الى شهادات المعادين للسودان وحكومته، ولم يحدث ان تمت دعوة مسؤولين سودانيين أو محامين او حتى علماء ليتحدثوا بموضوعية عن السودان. وأكد البيان تعهد حكومة السودان والتزامها التزاما تاما ببروتوكول مشاكوس، وقال ان التهديدات الواردة في ثنايا «قانون سلام السودان» لن تثني الحكومة عن الحفاظ على المصالح الوطنية لشعب السودان، وأنه اذا ما قدر للسلام ان يأتي فلا بد ان يكون سلاما منصفا وعادلا.
|