بعكس المرة السابقة، هذه المرة عدت إلى جدة، ولم أجد الغربان أمام الفندق، الذي سكنته، ولم أجد الفئران الضخمة، تحوم حول الكورنيش، وربما يعود السبب لأن الصديق علي حسون، عزمني هذه المرة على مقاه خمسة نجوم، ربما تضامنا مع أمين جدة، وربما حباً وعشقاً لهذه المدينة، التي أحبها وأعشق حرها وقرها، لكنني مع ذلك لم أعدم ما أكتب عنه، على الأقل لأحلل ما صرفته، أو( لأفش خلقي) في بعض الذين تعاملت معهم، أو تفرجت عليهم، أو مررت من جانبهم، وهم بحمد الله كثر، وبإمكاني أن أملأ كتاباً عنهم.. لكن هذا كله لا ينفي أن المهندس عبدالله المعلمي، أمين مدينة جدة، رجل ذو همة عالية وإخلاص لا شك فيه، لم ألمس ذلك من لقاءات، أو حفلات تعارف جمعتني به، لكني لمسته على الطبيعة، فأنا حقيقة لا أعرفه شخصياً، ولم ألتق به ولا مرة واحدة، وإن كنت التقيت بوالده رحمه الله، وكان رجلاً فاضلاً، وحازماً، وحارساً أميناً، من حراس اللغة!
هذه السيرة الجيدة لأمين مدينة جدة، جعلتني أتفاءل بمقدمه، وأملي أن تدفن إصلاحاته، رزايا حدثت من أمناء سابقين لمدينة جدة، أكبرها وأهمها قتل الكورنيش، وجعله منطقة مليئة بناطحات السحاب، وفنادق الخمسة نجوم، ولولا الحياء لكتبوا على مدخله «للقادرين فقط» وما أقلهم في هذا الزمن الناشف، لكنهم تركوه للجميع، للفقراء لينظروا ويتحسروا، وللأغنياء ليتجولوا ويقيموا ويصرفوا ما طاب لهم ذلك، والحمد هنا موصول، لأن هذا الأمين الجديد، يحاول الآن أن يعوض عامة الناس، بإعادة الحياة للكورنيش الجنوبي، وأملنا فقراء وأغنياء، أن يخلوه من ناطحات السحاب، والفنادق الفارهة، وقبل ذلك كله وبعده، من بائعات المتفجرات الصغيرة، أو التي يطلق عليها مجازاً «الطراطيع» فليس مثلها مقلقا للراحة، ومصدرا من مصادر الخطر، على رواد الكورنيش، والسؤال الذي يطرح نفسه بهذه المناسبة، من أين تأتي أولئك النسوة؟ ولماذا يسهرن حتى الساعات الأولى من الفجر؟ وأين بالتالي طيبو الذكر رجال مكافحة التسول والباحثون عن المتخلفين والمتخلفات؟ والذين كثيراً ما نرى منجزاتهم على الصحف، ربما لأن خرق هؤلاء الخارجين، زاد على الراقع، وربما لأن إخواننا لا يعملون، إلا في الأوقات الرسمية!
ومن سوء حظي وحظ أمانة جدة، أنني تجولت هذه المرة كثيراً في بعض الشوارع الخلفية، وقد ضاعف جهلي بالشوارع والأحياء، المدة التي قضيتها متجولاً في الشوارع، وما رأيته حقيقة مؤسف، فهناك العديد من الشوارع يستحسن أن يطلق عليها الشوارع الترابية، فقد اختفى عنها الأسفلت والأرصفة، وتكدست المياه الآسنة وسطها، وعلى جوانبها، مع طنين متواصل لعربات شفط مياه المجاري، من بعض الشوارع والمنازل، هذه المناظر موجودة في الشوارع الخلفية، لشارع التحلية وفي مناطق الجامعة والشرفية والبغدادية وغيرها، وهو ما يجعلنا نرجو ونلح في البحث عن حل، ولو مؤقت، لمشكلة المجاري، التي قيل وكتب أن بعض المناطق التي تصب فيها مهددة، ما يجعل شارعا فارها وبرجوازياً، مثل شارع التحلية، مهدداً بالغرق، حال تعرض السد الواقع في الجهة الشرقية من الشارع للتصدع.
لقد كنت مقيما في جدة، عندما كان المهندس محمد سعيد فارسي أمينا لها، وبقدر إعجابي وحبي لهذا الرجل، فإن عجبي وألمي من الذين جاءوا بعده زادا وفاضا حتى القهر.. وأملنا أن يعيد أمين جدة الحالي، بعضاً من احتفال الفارسي بعروس البحر.. ليس بإصلاح المجاري والشوارع والأرصفة والقضاء على بائعات «الطراطيع» فقط، ولكن بخلق مدينة نظيفة وجميلة وجيدة الرائحة وكثيرة الزهور والتحف.. ومع ذلك كله خالية من الاختناقات المرورية والبيروقراطية، التي تعشش في بعض أجهزة الأمانة، والتي ساهمت بطريقة أو أخرى، في بعض ما تعيشه ونعيشه معها، من مشاكل تؤلمنا، كلما حططنا الرحال ليوم أو أكثر، فما بالنا بأهلها وعشاقها؟!
(*)فاكس/ 4533173
|