Sunday 29th December,200211049العددالأحد 25 ,شوال 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

مرجعية الحرية «1/2» مرجعية الحرية «1/2»
الشيخ سلمان بن فهد العودة

مفهوم الحرية، يمكن ان يعني حسبما سبق طلاقة الارادة البشرية من القسر، او من هيمنة سلطة عليها سواءً سلطة خارجية، او كانت سلطة داخلية، فالسلطة الخارجية قد تكون سلطة سياسية، تكمم الافواه، او تملي على الناس ما يجب ان يقولوا، وقد تكون سلطة دينية تحتكر فهم النص او قراءته، وتصادر حق الآخرين في ذلك، وقد تكون سلطة اجتماعية تفرض على الافراد الانصياع لأوامرها وقراراتها.
ونعبر عن هذه السلطات بأنها خارجية، لأنها من خارج الذات،ومع ذلك فإن هذه السلطات في الاصل لابد منها، فلا يتخيل وجود مجتمع من دون سلطة سياسية كما قال:


لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة اذا جهالهم سادوا

وكذلك مجتمع من دون هوية، من دون دين، من دون قاعدة لا معنى لكونه مجتمعاً، اي مجتمع بشري لابد ان يكون لديه مجموعة من الاعراف والعلاقات والروابط، المؤثرة في الضبط الاجتماعي والاستقرار الانساني، لكن المحذور ان يتحول هذا الدور الى نوع من التسلط، او العدوان على حقوق الآخرين، وهنا لابد ان نستخدم كلمة التوازن، في معرفة الضابط بين القدر المشروع من هذه المراقبة او السلطة، وبين القدر الذي يتعدى حده ليكون عدواناً على ارادة الآخرين وحرياتهم.
هناك النوع الآخر من السلطات، وهو ما يمكن ان نعبر عنه بالسلطة الذاتية وهو ان لدى الانسان مجموعة من الطباع، والاخلاق، والركائز الجبلية، التي تؤثر في نظرته للامور، وقراراته، كأن يكون شجاعاً، او متهوراً، او ضعيفاً متردداً، او حاداً، او ليناً الى غير ذلك من الخصال والطبائع المركبة في بني الانسان، التي تؤثر في ارادتهم، وتؤثر في قراتهم، وتؤثر في احكامهم، وحتى في اختياراتهم الشرعية احياناً.
اضافة الى العوامل البيئية، والنفسية، والتاريخية، والمصلحية، ونستطيع ان نقول تأسيساً على هذه المسألة: ان قيماً للحرية، يجوز ان نسميها بشيء من التسامح في العبارة بمرجعية الحرية وتتمثل في اربعة اشياء:
اولاً: المرجعية النصية او الشرعية
يعني: سلطة النص الشرعي على المؤمنين.
ثانياً: المرجعية العلمية
ونعني بها: العلماء المعبرين عن الشريعة، كما سماهم ابن القيم - رحمه الله - في كتابه:
اعلام الموقعين عن رب العالمين.
ثالثاً: السلطة السياسية.
رابعاً: السلطة الاجتماعية.
ففيما يتعلق بالنص، وهو القضية الاولى، فإن لكل حضارة في الدنيا اياً كانت مرجعية مقدسة لديها، لا يمكن المساس بها، قد تكون مستمدة من قيم او دين، وقد تكون الحضارة مادية تقدس اللذة اوالعقل، او المادة، او المصلحة او غير ذلك.
فلا يمكن ان توجد حضارة الا ولها مرجعية دينية، او ثقافية.
وفي المرجعية النصية: فإن هوية هذه الامة هي: الاسلام، والدين هو اهم المسلمات، وهو اختيار افراد الامة ومجتمعاتها، وحتى اختيار اقلياتها.
فإن الشعوب المفتوحة، التي دخلت في الاسلام كالبربر او الشعوب الافريقية، او شعوب مصر، او الشام، او غيرها ذابت في الاسلام، وتقبلته، وآمنت به، وحملت رسالته، وجاهدت في سبيله.
اننا لا نعرف في تاريخ الاسلام ابداً ان شعباً، او فرداً دخل في الاسلام بالقسر والاكراه، وفي النص القرآني الكريم يقول الله تعالى:{لا إكًرّاهّ فٌي الدَينٌ..}، فلم يكره احد على الدخول في الاسلام، بل ان من مسلمات الدين انه لو دخل احد في الاسلام بواسطة الضغط والاكراه فإن اسلامه لا يكون صحيحاً عند الله، لأنه حينئذ مكره، والمكره لا تتعلق به الاحكام الشرعية، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى:{مّن كّفّرّ بالله مٌنً بّعًدٌ إيمّانٌهٌ إلاَّ مّنً أٍكًرٌهّ وّقّلًبٍهٍ مٍطًمّئٌنَِ بٌالإيمّانٌ وّلّكٌن مَّن شّرّحّ بٌالًكٍفًرٌ صّدًرْا فّعّلّيًهٌمً غّضّبِ مٌَنّ اللهٌ وّلّهٍمً عّذّابِ عّظٌيمِ} .
وهذه قضية لا توجد في تاريخ الامم الاخرى، ففي اسبانيا لما سقطت في يد النصارى، اقاموا محاكم التفتيش للمسلمين، ووجدت ظاهرة «العرب المورسكيين» الذين كانوا يضطرون الى تغيير دينهم من باب الخوف، وتغيير اسمائهم، ويستخفون، يتعرضون لألوان من المصادرة، والقتل، والسجن، بينما في التاريخ الاسلامي كله لم توجد مثل هذه الظاهرة، وهذه قضية مهمة جداً تحسب لعظمة هذا الدين، وعدالته ومناسبته، للشعوب كلها.
فالمقصود: ان دين الاسلام هو دين لكل شرائح الامة: للعرب، والاكراد، والبربر، والعجم، والفرس، دين لجميع الشعوب التي ذابت وتماهت، واصبحت جزءاً من الامة الجديدة «الامة المسلمة» اذن فالدين هو المرجعية الاصلية، والهوية الاساسية لهذه الامة، ان الاصول في المرجعية الاسلامية الشرعية ثابتة، والفروع فيها اجتهادية متغيرة، ان النص ثابت وهو:القرآن الكريم، وصحيح السنة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لكن التفسير محتمل، ليس له قداسة النص الا ان يكون تفسيراً قطعياً، لا يحتمل الوجوه والتأويلات.
ان الشريعة ثابتة، لكن الفقه اجتهادي ولذا كان للشافعي قولان، وغَيَّرَ تلاميذ ابن حنيفة ثلثي مذهب امامهم وتعددت الروايات عن الامام احمد في المسألة الواحدة، ولم يكونوا يخرجون بذلك عن كلمة عمر الشهيرة «ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي» وقوله لابي موسى «ولا يمنعك قضاء قضيته بالامس ثم هديت فيه الى رشدك ان تراجع الحق، فإن الحق قديم» وجاء رجل للامام احمد بكتاب قال: سميته اختلاف العلماء، قال له الامام: لا تسمه اختلاف العلماء، سمه: كتاب السعة!
اذن: المرجعية الشرعية ثابتة، سواء تمثلت في النص المطلق، او تمثلت في القطعيات التي بنيت على النص كقطعيات الاجتهاد، التي توارثتها الامة، خلفاً عن سلف، ولم يوجد حولها داخل الامة وخاصةً علماءها، وفقهاءها، وقراءها اي خلاف، او تعكير، او شغب.
اما المؤسسات التي تعالج، وتنتج الحلول والبرامج من هذه النصوص، فإنها تخضع للاجتهاد، يعني: ليس لها القداسة. وليست نقيضاً للتفكير، او البحث العلمي، او التطبيق الفني، او الابداع الادبي، ولكنها لا تجعل هذه الآليات المتحدث عنها اهدافاً، و انما تجعلها وسائل لهدف اسمى وهو: الرقي بالأمة، وتحقيق ربانيتها، والتزامها، ومصلحتها.
اننا نجد اليوم من يتحدث عن «الابداع الادبي» وكأنه نقيض لمسلمات الدين، ويعتدي على مسلمات الامة، بالرواية التي تخاطب الغرائز او تصور المجتمع على انه مجموعة من الانحرافات، والشذوذات، والاخلاق الفاسدة التي تجعل من مقدس الامة مادة للسخرية او العبث.
ما معنى الابداع الادبي اذا انفصل عن الامة، ولم يصب في مصلحتها، او بنائها، او تحقيق اهدافها، بل انشق عليها، وخرج عن نظامها، وقانونها!
كما ان المسلمات القطعية القائمة في هذه الامة، ليست محل جدل واجتهاد، ولا يمكن انتاج ثوابت جديدة، لتحقن في وريد الامة ودمها ووجدانها.
بل المفترض في الثوابت انها معلومة بالضرورة، ولا يجوز لاحد ان يعبث بها او يجعل ثمة هالة وحالة من الغموض، والتردد، والشك حولها، واي نقلة حضارية للامة يفترض ان تبدأ بتجديد الثوابت لئلا يتحول الامر الى صراع داخلي.
ان الثوابت هي: القيم والمبادئ، التي يقوم عليها وجود الامة، وتنطلق منها حياتها العلمية، والعملية، والادبية، فهي اساس النظام السياسي، وهي منطلق المناهج التعليمية، وهي روح الخطة الاعلامية، وهي سر اجتماع هذه الامة، وسر شخصياتها، وافرادها، وطوائفها، وشيعها، واحزابها.
ان وجود فرد او افراد لا يؤمنون بهذه المرجعية، لا يؤمنون بهوية الامة ليس مستغرباً، فإننا نجد انه حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان هناك المنافقون افراداً، او مجموعات محدودة معزولة، ضعيفة التأثير في مجرى الاحداث، وكانوا يعاملون ظاهراً على انهم افراد من ضمن هذه الامة، لكن فرق بين هذا، وبين ان يتحول الشك في القيم والمبادئ والثوابت، الى قاعدة عامة، والى خطاب عام، والى حوار لا ينتهي على مرأى ومسمع من افراد الامة.
لو ان انساناً كان يرفض العمل لوجود ازمة نفسية، او مشكلة، او ضعف، او تحد معين، فيرفض العمل، او يرفض الدراسة، او يرفض الزواج او حتى قل يرفض الحياة يشرع في الانتحار، فإن هذه تظل حالات محدودة التأثير، لكن لو صارت هذه الحالات مبدأً عاماً للامة، ورفض الناس كلهم العمل او الدراسة، او الزواج، او قام الناس بحفلة جماعية لعملية انتحار شاملة، لكان هذا كارثة مدمرة للأمة، إذ لا قيمة للأمة من دون حياتها، من دون رباط الزوجية، من دون العمل، من دون التفكير، من دون العلم، من دون الدراسة.
السلطة الثانية: هي سلطة المجتمع، ولا شك ان للمجتمع سلطةً لا يمكن تجاوزها من خلال مجموع العادات، والاعراف، والمجريات التي تقع فيه، ونجد ان النبي صلى الله عليه وسلم اصّل ذلك، واحال اليه في بعض المواضع، فإنه ترك بناء الكعبة رعاية لحال الناس وشفقة عليهم، ومنع من قتل المنافقين لئلا يتحدث الناس ان محمداً يقتل اصحابه، ومرر بعض الاشياء المرجوحة، لأنها اصبحت راجحة بالنظر الى مصلحة اجتماعية، عامة تتحقق للأمة من خلالها.
لكن هنا لابد من التوازن، فإنه لا يعني بحال من الاحوال، ان يتم تجاهل كثير من المصالح الشرعية المعتبرة رعاية لحال الناس، بحيث يكون المجتمع هو المرجعية في القضايا التي ليست من اختصاصه ليست قضية اجتماعية بحتة، وانما قد تكون قضية دينية، او قد تكون قضية مصلحية لا يدرك هو ابعادها، او يكون المجتمع منشقاً على نفسه وهنا يصبح ثمة مجال لاختيار الافضل والارقى وتبرز فرصة للتصحيح والاستدراك.
ان في المجتمع ما يسمى بالعادات والتقاليد، وهي جزء من النظام السائد في المجتمع، وهي جزء من العرف القائم المحترم في الاصل، فليس ما يسمى عادة او تقليداً مذموماً بذاته او محموداً، بل منها ماهو صالح لأن يستمر ويدوم، لأنه يبنى على مسلمات ثابتة ومستقرة، وهذا كثير، ومنها ما يحتاج الى ازالة او تعديل.
ففي المجتمعات الاسلامية ماهو صالح باطلاق مثل:
* الترابط الاجتماعي.
* صلة الرحم.
* بر الوالدين.
* صلة القربى.
*الاحسان الى الكبار ورعايتهم.
* الشفقة على الصغار.
* الكرم والجود، والفضائل الاخلاقية العريقة العميقة، التي اصبحت جزءاً من معهودات المجتمع وعاداته، وهي في الاصل ذات اصول شرعية دينية اسلامية.
وثمة اشياء صالحة في بعض الاحوال دون بعض:
- فقد تصلح لظرف، ولا تصلح لآخر.
- تصلح للفقر، ولا تصلح للغنى.
- تصلح للأمن، ولا تصلح للخوف.
- تصل للجهل، ولا تصلح للعلم.
وهذا باب يطول استقصاؤه، ومثاله: انماط الكرم التي يقدمها الناس، تختلف من حال الى حال، وقد يكون الكرم في الماضي له تعبير، وفي الحاضر له تعبير آخر مختلف.
ومن العادات والاعراف ماهو سيء، وربما يكون منابذاً للشريعة، لكن يحتاج في الخلاص منه الى نوع من الحصافة، والحنكة، والوعي لئلا يتحول تغييره الى مشكلة اكبر، او يكون تغييره سبباً في ترسيخه وتدعيمه، وعادة ما تكون الانقلابات غير المدروسة سبباً في نتائج عكسية.
ومن العادات والتقاليد وهو الاكثر، ما يكون مزيجاً من هذا وذاك، وقد يصعب على كثيرين تمييزه، واستخلاص جيده من رديئه ومثاله قضية النسب، فالنسب من حيث ثبوته سبب في صلة الرحم، ومعرفة الاقارب، والتوارث، والتواصل الى غير ذلك من الاحكام الشرعية، لكن هذا الاصل بني عليه من فجر التاريخ نوع من العصبية القبلية، التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ظلت موجودة على مستوى الجيوش، وعلى مستوى السلطة، وعلى مستوى العلاقات، وتوارثها الناس اليوم، واصبحت أحد العوامل المؤثرة في انشطار المجتمع واختلافه، انه ينقسم الى مجموعة من الشرائح، والتكوينات الاسرية القائمة على انساب متميزة، فلم يقتصر الامر على مجرد تعارف، او انتساب، وانما تحول الى نوع من التعصب، والتناحر والتنافس تضيع في حماه مسألة الكفاءة والجدارة والافضلية، فهنا اصبح في الامر نوع من الالتباس، بين ما هو اصلي، وصحيح، ومشروع، وبين ما هو طارئ، ومنبوذ، ومذموم.
السلطة الثالثة هي: السلطة العلمية:
والامر فيها لا يخلو من اشكال، فإننا نجد تفرقاً كبيراً، واعداداً غفيرة من العلماء، والفقهاء، والقراء، والمتعلمين، والمتخصصين في مجال الشرعيات، وهم لا يجمعهم كتاب حافظ، ولا تضمهم مؤسسة بعينها، بل الغالب ان كثيراً من الاقوال، والآراء، والاجتهادات، ترجع الى رأي خاص، واجتهاد شخصي اكثر مما ترجع الى اجتهاد جماعي، ومدارسة عامة، كما كان الامر في عصر الصدر الاول، حين كان عمر رضي الله عنه يجمع الصحابة اذا اشكل عليه امر ويستشيرهم، ولهذا كان من الكلمات الدارجة: «لو عرضت هذه المسألة على عمر لجمع لها اهل بدر». ولكن مع ذلك، فان الامر لا يخلو - ايضاً - من اشكال فيما يتعلق بالتعامل مع المؤسسة الدينية، سواء كانت رسمية، او شعبية، او جماعية، او فردية، فإن النفس الانسانية ترتاح لسماع المديح ولو كان كاذباً، وتنفر من سماع النقد ولو كان جاداً عادلاً، ولا يقمعها من هذا الارتياح الا رادع التقوى، والمراقبة لله سبحانه وتعالى والزهد في الدنيا، ومطامعها، فهذا الزهد يضعف مراكز الانانية في النفس، فتعتاد تقبل النقد، والتصحيح، ومثله التدريب، والتعويد، الذي يهون وقع هذه الاشياء، ويذهب حزنها، فإن الشخص الذي تعود ألا يسمع الا الاطراء، والثناء والتأييد، وهز الرؤوس، يصعب عليه ان يتقبل النقد، او المعارضة، او الرفض، وهذا امر طبعي، بل اكثر من ذلك، لو ان انساناً تعود على سماع النقد عشرين سنة، ثم فقد النقد اسبوعاً، ليسمع خلاله مديحاً خالصاً محضاً، لاحتاج بعد الاسبوع الى استعداد جديد، وتأهيل جديد وتدريب قاس، لقبول النقد الذي ينتظره.
ان الولاء السياسي، او العلمي، او الدعوي، ربما يأخذ اكبر من حجمه، او يتم التعبير عنه وتفسيره بطريقة غير دقيقة، فهناك من ينفر من نقد من ينتسب اليهم من المشايخ، او العلماء، او الدعاة، وبمجرد ما يسمع صوتاً باعتراض، ولو كان لطيفاً، فإنه يُستفز، للمقاومة والرد، وقد يطلق على الخصم عبارات، التصنيف والتهمة والمحاصرة ثم ينبري للدفاع، ولا بأس بحرية الانسان في الدفاع عما يعتقد، لكن مع مراعاة ان الانهماك في الدفاع، يفضي الى نوع المغالبة والمبالغة في الترميز، وتكريس الصدارة بطريقة لا حاجة اليها، وربما يكون ذلك تعميقاً للانشقاق في المجتمع الاسلامي، او داخل الصف الدعوي والصف العلمي، خصوصاً إذا كان الدفاع ينطلق من ولاء راسخ، او تبعية مطلقة.. ان التمحور حول الاشخاص بالتبعية او الاقصاء لهو معاناة مستحكمة، واذا تم غض الطرف عنه في ظرف من الظروف التي مضت، فإن من غير الممكن ان نغض الطرف عنه الآن، ويجب ان ندفع من جهدنا ومن عرقنا، ومن حقوقنا الشخصية، ومن اعصابنا، لأن نعيد الى الامة لحمتها ووحدتها، وان نبعدها عن عوامل التفرقة والانشطار..
نعم ان احقاق الحق، ورد الخطأ، مطلب شرعي، وحفظ مقامات الناس - هو مطلب شرعي آخر - والشريعة تتكامل ولا تتقاطع.
يجب ان يمنح الشباب بعض الحرية، في النقد، وشيئاً من الحرية، في مدى استحقاق من نسميهم، وجدارتهم بهذه الالقاب، التي نضفيها عليهم.
نعم! نحن نطالب بتحسين لغة الحوار، وتجاوز سلبياته، لكن لا يجب ان نفترض المستحيل، ولا ان نفترض ان القدرة على الحوار الهادئ يمكن ان تتم بين يوم وليلة، دع الناس يعبرون عن رأيهم الآن، ثم قم انت بالتوجيه، وسوف يتم التدارك بعد ذلك، وتهدأ اللغة بعدما يزول الاحتقان، ولو الى حد ما!
اذا كنا نحن ننتقد الحكومات والسلطات التي تضيق بالرأي الآخر، فلماذا نمارس الخطأ ذاته في محافلنا، ومجامعنا، ومنتدياتنا، وحلقاتنا، وجماعاتنا، ودوائرنا.
ان النقد لا يدمر الاشخاص الجديرين كما نتوهم بل هو يبنيهم، ويزيدهم تألقاً وطموحاً وثقة، ويثير فيهم عوامل الابداع، وينفض عنهم غبار التقليد والركون، ويقضي على سلبيات العظمة الوهمية، والكبرياء الكاذبة، والتعالم والادعاء الذي يسرع لمن تعود الا يسمع الا الاطراء، والمديح، والتأييد.
يجب ان تتعود آذاننا، على سماع نقد اولئك الذين نحبهم، مادام النقد ليس اتهاما، ولا تجريحاً، ولا طعناً، ولا سباباً، فإذا تحول الى شيء من هذا، فهو اللغو الذي نعرض عنه {وّإذّا سّمٌعٍوا اللّغًوّ أّعًرّضٍوا عّنًهٍ وّقّالٍوا لّنّا أّعًمّالٍنّا وّلّكٍمً أّعًمّالٍكٍمً سّلامِ عّلّيًكٍمً لا نّبًتّغٌي الجّاهٌلٌينّ }.
رابعاً: السلطة السياسية:
ما نقوله في السلطة العلمية، نقوله في المرجعية السياسية، فإن كثيراً من الدول اليوم، اصبحت ترى ان وجود ما يسمى بالمعارضة، سواء تشكل في احزاب، او مجموعات، او شرائح او غيرها - صار جزءاً مكملاً في المشهد السياسي، فإذا لم توجد، فإنهم يسعون في ايجادها، ولذلك فإن النقد الهادف البعيد عن التجريح، او السباب، او التهويل، او المصادرة - لا يدمر المجتمعات، والدول، والحكومات، بل يزيدها شفافية، ويعينها على تلافي النقائص والعيوب، ويكشف عن الادواء والامراض التي تكبر وتنمو في جو التعميم، والتعتيم، والتكتيم والتكميم، ان كثيراً من الامراض، انما تنشأ في الظلام، فإذا عرضت لأشعة الشمس، فإنها تقتل الجراثيم، وبذلك يعيش الناس عيشة طبيعية سوية سليمة، ولديهم قبول للمناقشة، والاخذ، والرد، والحوار وواقعية واعتدال في معارضتهم، كما لديهم واقعية واعتدال في تأييدهم، وقبولهم.
ان الشعوب الحرة هي الشعوب الجديرة بالبقاء والحياة، القادرة على تجاوز الصعاب، ومن الخطأ الظن بأن الحرية هي مجرد قرار، لا! انها برنامج للحياة والبناء، ولكن هذا القرار، يصلح ان يكون شرارة تقدح زناد الحرية، وتطلق صفارة البدء. ومن الطريف ان الجاحظ في كتاب الحيوان، ذكر ان البلابل اذا سجنت في اقفاص، فإنها لا تتناسل ولا تتوالد، وقد التقط هذا المعنى الجميل شاعر الشام عمر ابو ريشة، وكتب قصيدة عنوانها «بلبل»:


الفيته ينثر الحانه
كأنما ينثر من كبده
وإلفه المشفق ظل له باق
كما كان على عهده
مدله اللفتات مستوحش
طاوٍ جناحيه على وجده
كما اطبقت منقاره غصة
فمده ينقر في قيده
اسقمه العيش على وفره
لما رآه ليس من كده
واين مخضل الجنى حوله
من زنبق الروض ومن ورده
طوى المنى نوحاً ولكنما
لم يغنه النوح ولم يجده
فعاف دنياه ولم يتخذ.. عشاً
ولم يحمل سوى زهده
كأنه من طول ما مضّه
من عبث الدهر ومن كيده
ابى عليه الكبر ان يورث الافراخ
ذل القيد من بعده!
لو يعلم الصياد ما صيده
لم يجعل البلبل في صيده!

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved