ماهذا النقاش الذي يدور بين الفلسطينيين والعرب حول الانتفاضة المباركة ومدى ضررها بالعدو الصهيوني ليصل البعض للقول إن ضررها أكبر من منافعها للقضية الفلسطينية وبالشعب الفلسطيني؟!
لمصلحة من هذه الهجمة الشرسة من بعض المتنفذين في السلطة الفلسطينية و«الأصوات المشبوهة» الصادرة من بعض النخب السياسية والثقافية الفلسطينية والعربية على العمليات الاستشهادية والمطالبة بإنهاء الانتفاضة وتجريد الفلسطينيين من السلاح الوحيد الذي تبقى لهم؟!
فمنهم من يتهم الانتفاضة بالعسكرة التي أدت إلى تدمير كل ما بنته السلطة الفلسطينية.! بل طالب أبناء شعبه بوقف استخدام الحجارة داعياً إلى المقاومة المدنية في إطار الكفاح السياسي.! ووصل الأمر بأحدهم إلى اتهام فصائل المقاومة بالمليشيات المسلحة التي يجب تطهير المجتمع الفلسطيني منها..!!
وإن كان للإنسان العربي البسيط أن يفاجأ بكل ما يحدث عبر الساحات العربية والدولية المختلفة فليس من حق المثقفين وأهل الفكر والقلم المؤهلين لاستشفاف الحقيقة وتوضيح معالم الطريق للذين ضاعت أقدامهم وعقولهم وسط العواصف والأعاصير أن يفاجأوا بالذي يجري ويدور من حول القضية الكبرى فلقد كانت كل المقدمات التي تلت مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو تؤدي إلى مثل هذه النتائج بالرغم عن التمنيات والأماني التي كانت تساورنا بين الفينة والفينة والأضواء البراقة التي كانت توحي بأننا قد عرفنا الطريق بعد أن بشرنا «منظرو أوسلو» بأنها نهاية النفق..!!
صحيح أننا نعيش في عصر المستنقعات والجهود العربية المبذولة للخروج منها تدعو إلى الرثاء وتثير الاشمئزاز إلى أقصى حد..!!
وصحيح أيضاً أن الأمة العربية تتخبط بسياسات مرعبة أدخلت في عقولنا بأن السياسة هي الاختيار بين السيئ والأسوأ وأدخلت مبررات للتخلي عن واجباتنا الوطنية متكئين على مقولة تصف السياسة بفن الممكن..!!
ولكن هل يشفع ذلك بأن يصبح أمن إسرائيل مسؤولية فلسطينية عربية تحت شعار الواقعية التي تعمقت وتعممت بشكل يثير اليقين بأن أمن إسرائيل هو فعلاً مسؤولية فلسطينية عربية..؟!
كيف أصبحت قضية أمن إسرائيل محسومة وغير قابلة للنقاش..؟!
ألم يكن هدف محاضرة أبو مازن وبيانات المثقفين الفلسطينيين المحافظة على أمن إسرائيل..؟!
أليست المحاولات المستميتة لإجهاض انتفاضة القدس والقضاء على الحجر الفلسطيني هي للمحافظة على أمن وسلامة إسرائيل رغم الاكاذيب التي أطلقها البعض من أن اللقاءات الفلسطينية- الإسرائيلية هي للمحافظة على سلامة وأمن الفلسطينيين..؟!
ألم يصف العديد من قادة العدو الإسرائيلي محاضرة أبو مازن وبيانات المثقفين الفلسطينيين الممولة من الاتحاد الأوروبي بالحكمة والعقلانية..؟!
كيف استوطن في عقول هؤلاء ذلك المثل الصيني الذي يقول: اجعل عدوك صديقك واخلد إلى الراحة..؟!
إن الحيوانات لا تستسلم للجزار بهذه السهولة..!
حتى الجثث تثير ضجيجاً إذا اهتزت نعوشها..!
الغريب أن هذه الهجمة على الانتفاضة تزداد ظهوراً بفعل النكسات والهزائم، حيث يزداد التسيب والتميع ويكثر الاجتهاد وتعدد وجهات النظر باسم الموضوعية والعقل المجرد وترتكب الخيانات ويزداد نشاط العملاء والجواسيس باسم الموضوعية وباسم العقل المجرد وعلى حساب قضايا الشعب.!
أبشع ما يمكن أن تسمعه من تعليق على العمليات الاستشهادية في فلسطين المحتلة أنها جيدة لكنها أصابت مدنيين أبرياء..!!
تعجب أن قائلي هذه الترهات فلسطينيون وعرب ومسلمون وتعجب أن بينهم كتاباً وأدباء ومثقفين وحملة أقلام في وسائل إعلام عربية وتعجب أن بينهم سياسيين في موقع المسؤولية.!
ما هذه الحالة التي تعيشها قطاعات واسعة من أمتنا وهي تناقشنا في جنس الملائكة والعدو يحتل المقدسات الإسلامية ويصادر الأرض ويقتل النساء والأطفال والشيوخ ويفرض شروطه في كل مجال ولا يجد لإرادته أي رادع؟!
لم يكتف السيد محمود عباس «أبو مازن» بمحاضرته الشهيرة في غزة التي اتهم فيها الانتفاضة بتدمير كل منجزات الشعب الفلسطيني بل طلع علينا في التاسع والعشرين من تشرين الثاني «نوفمبر» الماضي في ذكرى يوم التقسيم المشؤوم بتصريح لجريدة يديعوت أحرونوت الصهيونية يتهم فيه فلسطينيي عام 1948م بإفشال الانتفاضة وإسقاط حق عودة اللاجئين إلى ديارهم..!!
واتهمهم أيضاً بالمسؤولية عن مقتل شهدائهم الثلاثة عشر الذين سقطوا في هبّة القدس والأقصى في شهر أكتوبر عام 2000م..!!
وقد أصدرت لجنة ذوي شهداء الداخل بياناً اتهمت فيه أبو مازن بأنه يضع نفسه في صف الذين قتلوا الشهداء وحصدوا آلاف الأرواح من الأطفال والنساء والشيوخ بوحشية...!!
وأنه لا يريد أن يعترف أن إسقاطات أوسلو التي هندسها مع شمعون بيرس هي التي أسقطت شعبنا في الحفرة وأسقطت حق اللاجئين والعودة وهي التي قطعت أوصال شعبنا الفلسطيني إلى شعوب عدة وقبائل عدة وقد أكد ذوو شهداء الداخل على أمور عدة في بيانهم:
1 - أن السيد ابا مازن يرى الصورة مقلوبة فما العجب في رؤيته للامور مقلوبة. اعلم يا سيد ابو مازن اننا لم نهاجم قوات الأمن الإسرائيلية ولم نهاجم مواقعها بل هم الذين هاجمونا في عقر دارنا وقتلوا أبناءنا بدم بارد فكيف يبرئ أبو مازن المجرمين ويجرم الضحايا؟؟!أليس هذا منطقاً مقلوباً؟
2 - إن تصريحات السيد أبو مازن في هذا الوقت بالذات تضر ضرراً بالغا بقضية الشهداء وتعطي لجنة «أور» الضوء الأخضر والمصداقية والغطاء لإدانتنا وإدانة أبنائنا الشهداء. وتحملنا مسؤولية دماء الشهداء وستحملنا مسؤولية خرق القانون والمساس بأمن الدولة والتعاون مع الأعداء .. سيكون لذلك تأثير كبير على حقوقنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية فهل هذا ما يريده الأخ أبو مازن؟؟ أم أنه لا يعي هذه الأمور.؟!
3 - أن تصريحات الأخ محمود عباس تسقط حقنا في التواجد فوق تراب الوطن وتعطي إسرائيل حق طردنا من هذا الوطن فهل قرر الأخ أبو مازن وتياره المتنفذ تهجيرنا من أرضنا ووطننا؟
4 - نحن نؤكد أن تضامننا مع شعبنا سيستمر أيضاً ولن تستطيع قوة في هذا العالم سلخ جلدنا العربي عن أجسادنا ولن تستطيع أن تنتزعنا من جسد شعبنا وأمتنا العربية.
5 - أن انتماءنا الوطني والقومي ليس منة من أحد لذا فلن يستطيع أحد سلبنا هذا الانتماء ولن نسمح لأحد أن يشكك به فليفهم السيد محمود عباس وليفهم كل العرب في هذا العالم أننا جزء لا يتجزأ من هذه الأمة ولن نكون رهن مزاجية أحد أو مصالح أحد أياً كان.
6 - نحن نعرف أن قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988م قد تجاهلت هذا الجزء المرابط في أرضه وتركته يتيماً على موائد اللئام ولا يزال البعض ماضياً في مخططاته وسيبقى يحاول انتزاع شعبنا الفلسطيني من حاضر أمته العربية.
7 - حقاً أن نقمة شعبنا من بدنه وحقا هناك من يجهل الجغرافيا والتاريخ لكن قد يجهل الإنسان أشياء كثيرة أما أن يجهل الإنسان فصيلة دمه فهذا ما لا نفهمه..؟!وطالب ذوو شهداء الداخل الأخ محمود عباس بالتراجع الفوري عن موقفه والاعتذار للشهداء وذويهم بل بالاعتذار لجماهير شعبنا المغروسة في وطنها كما طالبوا أبناء شعبهم قيادة وشعباً بوضع حد لهذه المهازل والمسرحيات التي يقوم بها الأخ محمود عباس.!
لابد أن شرخاً حقيقياً نعيشه في نفوسنا بتأثير كل عمليات التفاوض والاتفاقات ثم مظاهر التطبيع بين بعض البلاد العربية وإسرائيل.!
هذا الشرخ سمح لمثقفين أن يذهب بعضهم إلى العدو الصهيوني دون أي مبرر سوى أن دولته أقامت علاقة مع هذا العدو.!
إننا نخشى أن يخرج يننا من يوافق على بحث وجود هيكل سليمان تحت جانب من المسجد الأقصى.!
إننا نخشى أن يخرج من يساير اليهود للبحث عن آثار لهم مزعومة في كل قطر عربي من المحيط إلى الخليج ليثبتوا بعد ذلك وجودهم في كل البلاد العربية وانهم الأحق فيها لمواجهة مطالبة العرب بأرض فلسطين.!
باسم الواقعية في التطاول على حقوق الأمة العربية والإسلام والمسلمين سقطت الموضوعية وغاب الصدق عن النفس والوطن والآمال وحلت محل هذه عمليات جلد للنفس لا يعادلها إلا الانتحار الداخلي للقيم والمصداقية والرؤية السليمة.!وأخيراً:
حبذا لو أن المتباكين على اليهود القتلى في شوارع القدس وتل أبيب وعسقلان وحيفا يستذكرون صور شهداء أطفال شعبهم الذي قتلتهم صواريخ الطائرات الإسرائيلية أثناء دراستهم في صفوفهم الابتدائية.!
كنا نتمنى أن يذهب السيد أبو مازن والدكتور سري نسيبة لتعزية عائلة زينة العواودة التي قتلت مع أطفالها الثلاثة وابن أخيها في عبوة ناسفة زرعها العدو الإسرائيلي، أو عائلة الأسطل التي فقدت خمسة من أطفالها بقذيفة إسرائيلية وهم في طريقهم إلى المدرسة حيث لم تتمكن أطقم الأسعاف من التعرف على هويات الأطفال الذين تناثرت أشلائهم على الأشجار إلا من خلال حقائبهم المدرسية في العام الماضي أو لتعزية نفس العائلة التي فقدت خمسة من خيرة أبنائها الذين قتلهم العدو الإسرائيلي وهم يبحثون عن عمل يسدون به رمق أبنائهم.! أو عائلة سمير أبو زيد الذي استشهد مع طفليه بقصف صاروخي على منزله أو أن يذهبا إلى رمز المرأة الفلسطينية السيدة أم نضال فرحات التي ودعت ولدها محمد وقبلته وطلبت منه ألا يعود إلا شهيداً والسيدتين أم نبيل حلس وأم أحمد العابد اللتين فعلتا مع ابنيهما محمد ومحمود ما فعلته أم نضال لكي يقدمن لهن التهنئة باستشهاد فلذات أكبادهن، أو أن يتفقدا مخيمات الصمود بلاطة ورفح وجنين وخان يونس ونابلس والأمعري وجباليا والعزة وجميع المخيمات الفلسطينية التي تعرضت للتدمير وحرب الإبادة.!
حبذا لو يتذكر دعاة الهزيمة منازل مدينة رفع المهدمة التي جرفها العدو بالدبابات وجعل أصحابها ينامون في العراء في هذا البرد القارس..!!
ولكن قديما قالت العرب: حينما يتعلق الأمر بمصير الوطن فإن الغباء والخيانة يتساويان..!!نقولها بكل صراحة ووضوح وفي مجال الرد على ما يحاك ويصنع ويقال ويكتب عن العمليات الاستشهادية ومنفذيها: ان تحريك اصراع يجب أن يكون من أجل المعركة ومن أجل النصر، وذلك لا يكون إلا عن طريق العمل المقاوم، ومن خلال الاستعداد والحشد والتعبئة والحسم حول عقم كافة المحاولات التي تجري هنا وهناك لإحلال التسوية المزيفة لأنه من أخطر ما يمكن أن يحدث أن يحرك الصراع ويكبر وبالتالي تفرض الحلول والتسويات والتراجعات على الأمة العربية وذلك لن يكون سوى لصالح العدو الإسرائيلي الذي يصر أن تكون جزءاً فاعلاً في المنطقة وفعلاً متوسعاً لا حدود لأطماعه، ولهذا فإن الخيار ليس بين اتهام العمل الاستشهادي بالإرهاب، وبين إيجاد الحلول والتفريط بالحق الكامل للشعب العربي على كامل ترابه وإنما الخيار الحقيقي هو بالاستعداد والحشد وتبني المفهوم الحقيقي للعمليات الاستشهادية المستمرة بالرغم من كافة الظروف والأوضاع العربية والدولية التي تمارس للقضاء عليها.ونحن أخيراً كما يرددها الشعب الفلسطيني دائما، لا نريد القتال من أجل القتال، ولا نمارس النضال من أجل النضال، ولكننا ندرك أن أي تنازل وأي تفريط يعني القضاء على أمتنا وعلى مستقبل أبنائنا في الوطن العربي بأسره.
(*) كاتب وصحفي فلسطيني - الرياض |