كانت الأسرة قد اجتمعت سوياً على طعام العشاء في جو عائلي بهيج الأب والأم والأبناء.. وكانت فرحتهم كبيرة وهم يعيشون اللحظات الحاسمة في حياة ابنهم الأكبر الذي كبرت معه كل أحلامهم فهذا الأسبوع هو الأسبوع الذي يسبق امتحانات الثانوية العامة بالنسبة له، كان الجميع يشد من أزره ويرفع من همته وكان الأب أكثرهم فرحا وأشدهم حرصاً وتوجيهاً، وكان يذكر ابنه بأنه قد حان وقت قطاف الثمار بالنسبة له وانه أتى الوقت الذي يحصد فيه ما زرعه خلال الأيام الماضية والأعوام السالفة وأنه طالما كدح وتعب وجد واجتهد حتى يرى ابنه وهو على مشارف الحياة الجامعية وظل يرفع من همته ويشد من عزيمته والابن لا يزيده كلام الأب إلا إصراراً وعزماً وراح يمني ابيه بتحقيق امنياته وتلبية تطلعاته ووعده بأن يراه وقد ارتدى المعطف الأبيض طبيباً ماهراً يهرع الناس إليه - بعد الله - عند أزماتهم ليضع بمشرطه بعد مشيئة الله اللمسات الشافية لمرضاه ويتحسس بسماعته قلوبا تلهج بالدعاء والثناء له مع كل نبضة من نبضاتها،، فرح الأب بهذا الطموح السامي والهمة العالية لدى ابنه وربت على كتفه ودعا له ثم استأذن للذهاب إلى غرفته وتفرقت العائلة بعدما عاشت لحظات قليلة سمت فيها بآمالها وسبحت في بحر خيالها،، أما الأب فقد استسلم للنوم وراح في نومة عميقة لم يكدرها سوى ذلك الرنين المتواصل من جهاز الهاتف الذي حاول جاهداً تجاهله ولكن دون جدوى فإصرار هذا الرنين واستمراره دفع الأب إلى الاستيقاظ متسائلاً.. من يا ترى الذي يتصل في هذا الوقت المتأخر؟؟ وماذا يريد؟؟ لم تدم هذه التساؤلات طويلاً حيث رفع السماعة فبادره المتصل بالسؤال عن الأب باسمه أجابه الأب انه هو المطلوب،، عرف المتصل بنفسه وأنه أحد موظفي المستشفى وقال مخاطباً إن ابنك قد حصل عليه حادث سيارة وانه الآن في المستشفى. نزلت هذه الكلمات على الأب كالصاعقة وامتلكه الذهول إذ كيف يحدث لابنه حادث سيارة وهو أصلاً لا يمتلك سيارة ناهيك عن معرفته بقيادتها! رمى بالسماعة من يده وأخذ مفتاح سيارته وخرج من غرفته وفي الطريق مر بغرفة ابنه لعله يكون اتصالاً خاطئاً أو كابوساً مرعباً ومر بسلام!! فتح باب الغرفة ودخل فإذا هي خالية إلا من بعض أشياء الولد الدراسية المتناثرة هنا وهناك هرع إلى سيارته واتجه للمستشفى وهو يصارع أسئلة تائهة في داخله عن هذا الحادث وسببه وموقعه وهل ابنه يا ترى حصل له مكروه أم لا؟ وغير ذلك ولم تدم هذه الأسئلة طويلاً حيث وصل إلى المستشفى ودلف على عجل إلى قسم الطوارئ وهناك وجد غرفة مليئة بالجرحى ومثقلة بالمرضى اتجه نحو أحد الأطباء هناك وبادره بالسؤال عن ابنه أخذ الطبيب الاسم وطلب منه الانتظار وغاب لدقائق ثم عاد ولكن بوجه مختلف عرف الأب من ملامحه ان شيئاً ما قد حدث لابنه اقترب الطبيب وهو يصارع دموعه ويحبس حرقته واناته وأخبره أن ابنه قد انتقل إلى رحمة الله وأنه قد تمت إحالته إلى الثلاجة! صعق الأب ولم ينتظر حتى يكمل الطبيب حديثه وانهار من هول الفاجعة وسقط في مكانه، أخذه من كان معه بالغرفة وحاولوا التخفيف عنه وامتصاص أثر الصدمة التي حدثت له والأب في فاجعة عظيمة لا يزيدها إلا جهله عن نوع هذا الحادث وملابساته!! إذ أين حدث؟ ومع من ؟ ومتى؟ولم يبدد هذه التساؤلات وينفض هذه الاستفهامات من ذهنه إلا ذلك الشرطي الذي أقبل عليه ونقل له تعازيه الحارة قبادره الأب عن ملابسات الحادث وكيف حدث فرد عليه اجابة فهم الأب من خلالها أن الابن قد اصطحبه بعض أقرانه في سيارة لهم لمكان للتفحيط فحصل الحادث وتوفوا جميعاً في موقع الحادث بعد انفجار أحد الاطارات. زادت هذه الكلمات من وقع المصيبة لدى هذا الأب المكلوم فوفاة ابنه كانت بحد ذاتها قاصمة الظهر بالنسبة له ناهيك عن الطريقة التي قضى بها نحبه.
قام الأب بالاتصال على بعض أقربائه وزملائه فتولوا أمر التجهيز والتكفين وبعد أن صلوا عليه وحملوه فوق أعناقهم وقد غطاه ذلك الكفن ناصع البياض إلا من نقط دم حمراء يبدو أنها آثار جرح لم يلتئم بدأت حرقة الأب تزداد وهو يتذكر كلام ابنه وهو يمنيه بارتداء المعطف الأبيض فإذا هم اليوم يلبسونه الغطاء الأبيض من رأسه وحتى أخمص قدميه بلا رغبة منه،، زادت حرقته وهو يرى ابنه وقد دفع ثمن غلطة متهور غرر به فأودى بحياته.
حملوه والأب ينظر إليه نظرات الوداع الأخير.. حملوه والأب لا تزال في ذهنه الكثير من الآمال والأماني التي كانت معلقة عليه.. حملوه والأب يصارع الكثير من علامات الاستفهام في داخل ذهنه.. ثم دفنوه ومعه دفنوا حلماً كان قد غرسه أبوه فيه. دفنوه ودفنوا معه آمال أسرة كاملة كانت تعول عليه الشيء الكثير.. دفنوه ودفنوا معه طاقة شابة كانت ستكون من سواعد البناء وعوامل التقدم للمجتمع..
رجع الأب إلى بيته وحيداً إلا من رضاه وتسليمه بقضاء الله وقدره ولا تزال لديه في ذهنه الكثير من الأسئلة الحائرة والاستفهامات التائهة التي تبحث عن اجابة..فمن المسؤول عن فقدانه ابنه؟ هل هو المسؤول أم إن المسؤولية تقع على الأب الذي وفر لابنه تلك السيارة التي تسببت في قتلهم؟هل ذنبه ان ابنه انجرف وراء تغرير طائش وفرت له جميع سبل الانحراف؟هل ابنه أخطأ بالفعل وإذا كان أخطأ فهل يستحق هذا الخطأ أن يدفع حياته ثمناً له؟وغيرها من الأسئلة كثير لا تزال تبحث عن مجيب.إن هذا السيناريو السابق لا يعدو كونه قصة خيالية مستوحاة من واقع مجتمعنا الذي لا يمر عليه يوم إلا ويودع أحد أبنائه ويوارى تحت الثرى أحد فلذات كبده والذين كان ينتظر منهم أن يكونوا سواعد فتية تساعد في نهضته وتسهم في تطوره ورقيه فإذا به يستقبل الصفعات المتتالية ويفجع بهم الواحد تلو الآخر في حوادث تفحيط مأساوية أقرب ما تكون للانتحار والعياذ بالله.إن ظاهرة التفحيط المشينة قد ألقت بظلالها على المجتمع وبدأت تظهر افرازاتها المنتنة إليه فهؤلاء الشرذمة الممارسون لها لم يقتصر اذاهم على أنفسهم بل تعداهم ليشمل أرواح أبرياء سذج لم يكن ذنبهم إلا أنهم انجرفوا خلف خديعة أولئك النشاز واستسلموا لطاعة هؤلاء المفسدين فدفعوا ثمن ذلك غالياً تمثل في أرواحهم وأعمارهم وجرعوا هذه المصيبة غصصا لمن خلفهم..إن من بين أوساط الشباب فئة متهورة وضعت رؤوسها على أكفها في سبيل شهوة ساعة تهوراً وانتحاراً تهدد مجتمعها وتهدد أقرانها وتهدد أرواح الكثير من الأبرياء.. إن المجتمع بكل فئاته مطالب باستئصال هذه الظاهرة الخطيرة من جذورها وإيقاع أشد العقوبات بمن يمارسها ويدعو لها ويشجع استمرارها.. وإن افرازاتها المنتنة بدأت تظهر للعيان من انتشار للفساد ورواج للرذيلة وإدمان على المخدرات واستعمال للمسكر وذلك حسب اعترافات أحد الاخوة التائبين من ممارستها - ثبته الله - في لقاء معه نشرته إحدى الصحف المحلية وذكر به اعترافات خطيرة يتحمل وزرها ويدفع ثمنها المجتمع ككل، فبشهادته يعتبر التفحيط وراء العديد من الجنحات الأخلاقية والسرقات المنظمة والإخلال بالأمن في كثير من الأحيان،، وإن الغريب والمدهش هو ما ذكره من أن أحد المفحطين قد تسبب في مقتل ثمانية أرواح لم تتعد فترة سجنه ثمانية أشهر فبالله عليكم كيف يرتدع من كان هذا جزاؤه؟وكيف لا يعود لممارسة التحفيط هو وأقرانه إذاما أيقنوا أن العقوبة لن تكون بحجم الخطأ.وهل أصبحت أرواح الأبرياء رخيصة إلى هذا الحد؟فالمسألة ليست دية تدفع ولا عقوبة مخففة تقضى، المسألة ازهاق روح بريئة في قتل أشبه ما يكون بالعمد فهل يكافأ مرتكبه بإطلاق سراحه ليكون محفزاً له ولغيره للاستمرار على مواصلة عادتهم المشينة، فهذه الفئة ومن خلفها من آباء وأولياء أمور لا يبالون بأرواح الناس ولا بأعمارهم فالواحد منهم - كما ذكر الأخ - يتعمد صدم الآخر بقصد القتل ومن ثم يؤمن ديته ويخرج حراً طليقاً وكأن شيئاً لم يكن فهل يعقل هذا؟ومن يتحمل هذا الاستهتار واللامبالاة بأرواح الأبرياء؟
وقد ذكر الأخ أنه تم القاء القبض عليه أكثر من أربعين مرة وفي كل مرة يطلق سراحة فيعاود الكرة فهل يا ترى لو أنه تلقى العقوبة الصارمة والجزاء الرادع هل سيعاود الكرة مرة وأخرى؟ ولكن يبدو أن حسن المعاملة ولين الجانب الذي يحظى به هؤلاء المفحطون المفسدون من رجال الأمن دفعهم لمواصلة تفحيطهم واستمرار عطائهم الآثم.
إن تفشي ظاهرة التفحيط واستمرارها تنبىء عن خلل كبير في العمليتين التربوية والتأديبية لدينا فلا المربون قاموا بواجبهم على أكمل وجه في تربية ومراقبة من تحت أيديهم ولا الجهات المسؤولة ضربت بيد من حديد على من أسيئت تربيتهم وشذوا عن الطريق السوي.فالآباء والمربون مسؤولون وعلى كاهلهم تقع النسبة الكبيرة من المسؤولية فأولئك الآباء الذين منحوا أبناءهم كل شيء إلا التربية منحوهم المال والسيارة وفوق هذا منحوهم الوقت الذي باتوا يضيعونه كيفما يشاءون دون حسيب ولا رقيب فهم مسؤولون أمام الله عن تفريطهم ومتهمين أمام المجتمع بإخراج جيل تائه ضل وأضل غيره وكذلك جزء من المسؤولية يطال رجال التربية والتعليم وعلماء النفس فهم مطالبون بدراسة هذه الظاهرة دراسة متأنية والتعرف على أسباب ظهورها واستمرارها وتنظيم المحاضرات التوعوية التي تحاول ابراز مساوئ هذه الظاهرة ووضع الطرق الناجعة لإيقافها وإيضاح سلبياتها والخسائر المترتبة عليها اقتصادياً وأمنياً وأخلاقياً.وتشترك في المسؤولية وسائل الإعلام بأنواعها فالواجب تكثيف الحملات الإعلامية التي تنشر صور الضحايا وتلتقي أصحاب التجارب السابقة لإيضاح مصير ممارسي هذه الظاهرة وكذلك توجه الدعوة لأصحاب الفكر وأهل التربية لمناقشته وتنظم لقاءات مع ضحايا هذه العادة الذين عرفوا النهاية الحتمية لها الذين يرقدون بالمستشفيات أو اولئك الذين يقبعون بالسجون.
ورجال الأمن لهم نصيب كبير من المسؤولية فهم مطالبون بالضرب بيد من حديد على ممارسي هذه الظاهرة ومتابعة الأماكن التي يرتادونها وزرع أعين أمنية بين المتفرجين لتلدهم عليهم ولو بعد انتهاء جولاتهم التفحيطية وكذلك يجب تخصيص جزء من الحملة الأمنية الشاملة عن ظاهرة التفحيط ويجب عدم التساهل في معاقبة مرتكبيه وعدم قبول الشفاعات والوساطات التي تبذل لأجل اخراجهم بعد سجنهم فهم آفات خطيرة ومعاول هدم تهدد المجتمع واستقراره فيجب سجنهم لأن أفضل وأنجع علاج للشاب هو حبس حريته لأن الغرامات المالية تضر بالمقام الأول الأولياء ولا تردع الشباب مع العلم أن هناك فئة عظمى من الأولياء تدفع بسخاء لاخراج ابنها حتى ولو كان ذلك على حساب تربيته وفساد أخلاقه فالتركيز على عقوبة السجن من وجهة نظر شخصية هو الطريق الأسلم لردع مثل هؤلاء مع التركيز خلال سجنهم على تكثيف الندوات التوعوية لهم وعدم الافراج عنهم إلا بعد التأكد من صلاحهم وعدم التهاون معهم عند إلقاء القبض عليهم مرة أخرى.وللمساجد وأئمتها وخطبائها دور كبير في توعية الناس ومناقشة القضية من وجهة نظر شرعية وما تتسبب فيه من اضاعة للمال والوقت وكذلك ما يحدث خلالها من قتل متعمد وانتحار خطير.
وأخيراً هناك جهة أخرى تتولى مسؤولية هذه الآفة وهي شركات تأجير السيارات إذ يجب متابعتها ومراقبتها والتأكد من اتباعها للشروط الموضوعة لها من الجهات العليا وتنظيم جولات تفتيشية دورية للتعرف على الاستراتيجية المتبعة لديهم في التأجير وهل هي نظامية أم لا؟
وفي الختام:هل يعي المجتمع خطر هذه الظاهرة وما يترتب عليها من خسائر اقتصادية وبشرية؟
وهل يعرف الآباء أنهم يتحملون الجزء الأكبر من المسؤولية وأنهم مسؤولون أمام الله عن هذه الأرواح التي تزهق يومياً؟وهل يعرف رجال الأمن حجم الأمانة الملقاة على كواهلهم؟ وهل نلحظ منهم التحرك بشكل جدي لاستئصال هذه الظاهرة؟وهل وهل وهل؟اسئلة تبحث عن اجابة واستفسارات تبحث عن مجيب نتمنى أن تكون اجابتها طريق العودة للصواب والإقلاع عن هذه الظاهرة المشينة والعادة السيئة التي دفعنا ومازلنا ندفع ثمنها غالياً. والله من وراء القصد..
|