Tuesday 24th December,200211044العددالثلاثاء 20 ,شوال 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

برنارد لويس... وتسييس الوقائع برنارد لويس... وتسييس الوقائع
لبنى وجدي الطحلاوي

عندما نتحدث عن برنارد لويس، فنحن نتحدث عن رجل مثير للجدل دائماً لما عرف عنه من توجه أيديولوجي معروف وتسييس للوقائع التاريخية في كل مقالاته ومحاضراته وكتبه.. التي من أشهرها «العرب والتاريخ» و «الساميين وأعداء السامية» و«ظهور تركيا الحديثة».. وأخيراً كتاب «الشرق الأوسط وتعدد الشخصية» الذي يعتبر أكثر كتب برنارد لويس إثارة للجدل، لكن عندما نعلم أنه آخر بقايا مدرسة المستشرقين التي نمت وترعرعت في أحضان الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي التي تتبنى جميع الأفكار الصهيونية، لن نفاجأ بما يمكن أن يطرح لنا، لكن لن نقف متفرجين ومستسلمين لأدائه وإجادته لتزييف الوقائع.. ببراعة.
فهذا الرجل الذي اقترب من التسعين من العمر اعتاد على الهجوم والانتقادات سواء من جمهور القراء أو المتخصصين الأكاديميين، فكانت الكثير من الانتقادات كما يقول النقاد المحايدون ذات طابع عاطفي لا تقدم أدلة دامغة ومقبولة تتعلق «بنظريات التآمر» وقليل من تلك الانتقادات اتسمت بالدقة والموضوعية.
لكن لسوء حظ برنارد لويس، أن تصدى له الكاتب والبروفيسور الفلسطيني الأمريكي بجامعة تورينتو «إدوارد سعيد» فقدم نقداً شديداً ولاذعاً وموضوعياً في كتابه الشهير «الاستشراق» استعان إدوارد سعيد بخبرته الأكاديمية وثقافته العربية الواسعة وإجادته للغة التخاطب التي يفهمها الغرب واستطاع بتركيزه على العلاقة الوثيقة بين المنهج العلمي الذي يتبعه المستشرقون، وبين الصراع الحضاري والسياسي المستمر بين الغرب والشرق، أن يبرهن بالأدلة على الارتباط الوثيق بين التحولات السياسية والفكرية في أوروبا على مر العصور ونظرة الأوروبيين للشرق وللمسلمين، كما سخر سعيد بشدة من ادعاء برنارد لويس الحيادية والموضوعية، وأثبت بالأدلة الدامغة تحيز لويس وغرضيته وتعصبه ودارت مواجهات عنيفة بينهما كانت نتيجتها استسلام برنارد لويس وإعلانه الابتعاد عن الوسط الأكاديمي العربي وتكريسه لآرائه السابقة حول الحضارة والتاريخ الإسلامي بوضوح ودون مواربة.
وبعد عدة سنوات من ذلك اشتاق برنارد لويس للجدل من جديد فأصدر آخر كتبه «الشرق الأوسط وتعدد الشخصية» الذي يعد أكثر كتبه إثارة للجدل، فلو ألقينا الضوء على أهم ما ورد فيه بشكل مختصر وسريع، وبالنقد والتحليل، فسنبدأ أولاً بعنوان الكتاب، فهو كتب إلى جانب كلمة الشرق الأوسط عبارة «Multiple Identites» وهي تعني «تعدد الشخصية» فكما هو معروف في علم النفس هذا مصطلح يطلق على غير الأسوياء من الأشخاص الذين يعانون نوعاً من الاضطرابات النفسية، «فيتقمصون أكثر من شخصية متناقضة في صفاتها، وتصرفاتها ولا يستطيع المريض التحكم في أي شخصية منها فيعيش في حالة من تصارع تلك الشخصيات بعضها البعض، فيعاني المريض بتعدد الشخصيات والاضطراب النفسي والابتعاد عن الواقع وصعوبة التأقلم مع غيره وازدواجية التصرف والعصاب،..».
وعلى الرغم من أن برنارد لويس يقول في مقدمة كتابه أنه لا يقصد في استخدامه لهذا المصطلح الإيحاء بأن المنطقة تعاني «المرض النفسي» إلا أن كل ما ورد ذكره في الكتاب يؤكد أن هذا بالضبط ما كان يريد تأكيده لويس في كتابه.
يبدأ حديثه عن «الدين» ويقول الدين وليس أي شيء آخر هو العامل الأكثر أهمية في تحديد الهوية لسكان المنطقة، ويستشهد باتفاقية لوزان التي أنهت الحرب بين اليونان وتركيا عام 1923م ويقول لم تكن الحقيقة تبادلا بين سكان يونانيين يعيشون في تركيا وسكان أتراك يعيشون في اليونان، بل بين سكان أتراك يعيشون في تركيا ويتكلمون التركية، ولكنهم يدينون بالمسيحية الإغريقية تم ترحيلهم إلى اليونان وفي المقابل قامت الحكومة اليونانية بترحيل سكان يونانيين يتكلمون الإغريقية ولكنهم يدينون بالإسلام إلى تركيا، فيقول العامل الذي حدد الهوية كان الدين ولم يكن اللسان أو العرق أو القومية.
ويقول بدليل إن الدول الإسلامية هي الدول الوحيدة في العالم التي تجتمع في مؤتمر يضمها تحت راية منظمة الدول الإسلامية بينما لا يحدث ذلك تحت راية البوذية أو المسيحية.
ويتحدث في النقطة التالية على أن «شعوب المنطقة» بما في ذلك «مصر وإيران والعراق» قليلة الوعي بماضيها وحضاراتها، وتعرفوا على ماضيهم وحضاراتهم لاحقاً نتيجة الاهتمام الأوروبي بذلك فالاكتشاف الأوروبي لماضي المنطقة وتاريخهم وحضاراتهم جعل تلك الشعوب تعيد اكتشاف ماضيها وتاريخها القديم وإنجازاتها الحضارية «فلم نكن نعرف من نحن ومن نكون والأوروبيين هم من لهم الفضل في ذلك».
كما زعم أن دول المنطقة قد أوجدها الاستعمار الغربي، بالرغم من أن الكثير من دولها ذات هوية واضحة عريقة وسحيقة في القدم، ولها حدودها الواضحة منذ العصور الوسطى، ومن التعسف تضخيم دور الغرب في تكوين الهويات الحديثة للمنطقة، و برهانه على ذلك أن لغة الهوية والنقاش السياسي في المنطقة قد تمت استعارتها من الغرب، ودليله على ذلك كون الكثير من التعابير المستخدمة في الخطاب السياسي العربي أو الفارسي أو التركي هي غربية مثل كلمات «ديمقراطية دكتاتورية .. إلى آخره من الكلمات المشتركة».
دون الاعتراف بأن الدول الغربية أيضاً قامت باشتقاق تلك الكلمات أو استعارتها عندما مرت بالظروف التاريخية نفسها التي مرت بها الدول العربية فقامت بالاستعارة من اللغة اللاتينية والإغريقية عندما دعتها الحاجة لذلك.
ثم يستخدم أسلوب «التحليل اللغوي» وهو العودة بالمصطلحات إلى جذورها الجاهلية أو السحيقة في القدم، ويبني على ذلك أحكاماً لا تتفق مع منطق العقل، فيعتبر أن تلك المصطلحات «استعارة» وينكرها علينا وغاب عنه أن المراجع والعلوم الأوروبية أخذت الكثير واستعارت الكثير من المصطلحات اللاتينية والإغريقية وبنت عليها إنجازاتها وحضاراتها، فلماذا لا يعتبرها استعارة وينكرها عليهم أيضاً؟
ويتحاشى تماماً برنارد لويس ذكر كلمة، عالم عربي، أو عالم إسلامي، فيشير دائماً للمنطقة بمصطلح «الشرق الأوسط» يريد مصطلحاً يستوعب وجود كيان دخيل على المنطقة مثل «إسرائيل» ويتحدث عن الهوية الإسرائيلية ويحشرها حشراً مع الشعوب العربية والإيرانية والتركية ويحاول أن يجد لها عناصر مشتركة مع مسسيرة تكوين هويات تلك الشعوب بالرغم من الاختلاف الشاسع، فالكيان الإسرائيلي لا يتجاوز الخمسين سنة، بينما تاريخ تلك الكيانات السياسية للشعوب العربية والتركية والإيرانية ضارب في القدم.
ناهيك عن استعراضه للمنطقة وسكانها كمن يستعرض مخلوقاً فضائياً غريباً، فالشرق الأوسط عند برنارد لويس هو الآخر، فهناك مجموعتان من البشر لديه متناقضتون ومتقابلتان، مجموعة «هم» الشرقيون، ومجموعة «نحن» الأوروبيين، فهو يرفض التقاسيم السياسية أو التاريخية التي ارتضاها سكان المنطقة لأنفسهم بل يفرض تقسيمات أخرى، ولا يرضى بالمصطلحات التي خرجت من رحم التطور الطبيعي لتلك الشعوب، وتعبر عنهم ولإصراره تأكيد غرابة المنطقة يتجاهل عن عمد أوجه التشابه المهمة بين عملية تطوير الهوية في منطقة الشرق الأوسط وتطوير الهوية الذي حدث في أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية الذي يتشابه من أوجه عديدة لتشابه الأسباب والظروف التاريخية التي أحاطت بهم، لم تكن الشعوب العربية أو الفارسية أو التركية هي الشعوب الوحيدة التي أعادت تعريف هويتها لانتقالها من دولة تقليدية إلى دولة حديثة بامكاناتها ومسؤولياتها الواسعة تعمد لويس تجاهل ذلك عن قصد حتى لا يجد نفسه منقاداً إلى حقائق واستنتاجات لم يكن يرغب في الوصول إليها.
أراد برنارد لويس تقديم كتاب على نمط «نهاية التاريخ، لفوكوياما» أو «صدام الحضارات، لصمويل هانتغتون» ولكنه قدم نوعاً من الكتاب لتاريخ عفا عليه الزمن، فنحن في عصر تتشابك فيه إنجازات الشعوب وحضاراتها المختلفة والمصالح المشتركة..

للتواصل: - 6066701ـ02 - ص.ب: 4584 -جدة: 21421

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved