لم يكن العزاز مثل بقية الزهور يتريث حين يسكب ماء روحه للحياة، كان يَسفَح عصير الدم الفوَّار بلا هوادة.
كل زهور العالم ميلادها في الفجر وتموت في الفجر وأظن العزاز قد عاش أكثر من عمره، وأظنه قد استنفد كل رصيده من نسوغ الروح والأعصاب والرَّسيس المنقوع من المشاعر المرهفة ما جعله في أتون معركة شعواء مع الحياة التي استدارت لتكون ضده والمفترض أن تكون له أو على الأقل في حياد أنبل مثل سائر المحاربين النبلاء.
كان رحمه الله مولعاً باختطاف الصور التي يريدها الموت من الممنوعات أو المحرمات للنشر والتعرية، وكانت الحياة لا تبخل عليه في العطاء الفني وكان يسرف في عصر البقية الأخيرة من قطرات دمه وأعصابه، وهذه هي الحياة لا تحب من يمارسها أو ينازلها بأية صورة كانت. ولربما كان الموت لو شاء آن يماريه أو ينازله أن يختطفه في حادث عابر، مثل حادث سيارة مثلاً، وتصير المسألة واحدة بواحدة.
ولكن هناك غير الموت هناك الحياة، وهي التي قيل لنا عنها ونحن صغار في (الابتدائية) قيل فيها:
(إذا امتحن الدنيا لبيب تكشَّفت له عن عدو في ثياب صديق) |
إن مقدرة العزاز في اختطاف الفكرة والصورة ودمج الكاميرا مع عدد آخر من الأفكار والأخيلة والمرايا المخبوءة وبث الصورة الوليدة المخلَّقة من عدة كاميرات ومشاهد سرِّيَّة ثم تلوينها بكل ما عنده من ثقافة حديثة متوثبة وشابة وحيَّة. هذه المقدرة التي فاجأ بها عالمه الخاص والعام هي التي قتلت العزاز، وهي التي راحت تترَّبص به حتى أدخلته الحبس لأول مرة، وحين انطلق وصار يركض مثل السواقي حين تُكركر وراء قذائف السواني في النخيل الناعس، كان كأنه قادم إلى سليمان الحكيم بعرش بلقيس فلم يلتفت الى الوراء واستطاع بمقدرة متفائلة فائقة أن يجرَّ وراءه كل الرياح العاتية ومثل العزاز الشاعر الهمشري وكذلك الشاعر الشابي والشاعر (بروك) وكثيرون يعشقون الحياة ويسكبون لها أرواحهم ولكن يصير الجزاء على غير المتوقع والمأمول، وصدق الذي قال:
(خُلِق الحبُّ من الظُّلم ولو أنْصف المحبوبُ فيه لسمح) |
وفي أمثال العرب قولهم: (كثرةُ التَّودُّد تُثير الريبة). ومن أشعارهم:
(إذا برم المولى بخدمة عَبْدِه تجنَّى له ذنباً وليس له ذنب) |
إذن، برمت الحياة بهذا الولد الراكض أبداً، المشرق أبداً، الراحل أبداً، الهائم أبداً، المغرِّد أبداً، العاشق أبداً، النادر أبداً، الصالح أبداً، العزيز أبداً، المعتز أبداً، المعز أبداً.
إذن هي التي قتلته؟!
إذن هو العزاز المقتول؟
لا هذا ولا ذاك. إنه القاتل والمقتول، هو (السّكين والجرح) ولكن أيضا هو (البريء والمتَّهم) ولكن بالطبع ليس هو الجاني والمجني عليه. إلا في واحدة هي الأولى والأخيرة. إنها جناية الحياة أو جريمة الحياة، إنها قدرة في أنْ يولد وقد صار مكتوباً عليه أن يولد في صورة (فنان) وصار مكتوباً عليه أن يولد في هذه الصحراء التي لا تجود على أحد من الناس بأي سر من أسرارها وقد كابد فيها المستشرقون وأنفقوا أعمارهم وعادوا بخفي حنين وظهر العزَّاز فاخترم أحشاءها وكشف بعض أقنعتها في أيام قلائل وهكذا صارت حكايته معها.
الناس جميعاً يصرخون ساعة الميلاد ويصرخون ساعة الموت أو ساعة الغياب إلا العزاز، كان يموت في كل ساعة منذ أن استبد به المرض ولم يكن يصرخ مثل الناس، والظاهر أنه حتى في ساعة ميلاده، جاء إلى الحياة هابطاً من جنته وهو ضاحك كأنه يسبح في بحيرة في فردوس حالم.
جاءني خبر رحيل العزاز رحمه الله وأنا أكتب في الحلقة التاسعة من دراسة عن (مفهوم الفقر وتآريخانياته من منظور فلسفي) وبقيت مثل الأرنب حين يفجؤها الأسد، بقيت أحملق في المجهول وانتابتني سكتة عن فعل أي شيء. ولعل الفنان العزاز في السنوات العشر من عمره قد تجاوز مثل هذه الأزمة، أزمة الفقر، ولعل هذه المحنة هي التي دفعته إلى الأمام وإلى فوق وإلى الإبداع المميز، لأنها صادفت في روحه نفساً شريفة زاكية. والفقر بلاشك مؤلمٌ ومهلك ولا يرحم، والآلام كثيرة ولها مراتب، ولكن (كل ألم يٌزكي النفس وُيرَقِّيها ويزيدها علواً إلا ألم الفقر فإنه يلِّوثُها ويورِّثها أمراضاً عضالاً لا شفاء لها) والعزَّاز لم ينل منه الفقر بل زاده ورفعه فلم ينزل به إلى الهوان ولم يدفعه إلى الغرور بعد النوال).
وكانت معرفتي به في المنطقة الشرقية لحضوره (محاضرة) لي في بعض الأندية هناك. ولم يكن يلفت النظر إلا في ولعه بالأسئلة المتتالية مثل انهمار المطر. ولكن بعد انتقاله إلى الرياض وتَخَطِّيه إلى مرحلة متقدمة في سؤالاته المتلاحقة لصحراء الجزيرة العربية، وبالتالي لشغفه في أن يعثر على (نار الخلود) أصبح لافتاً للنظر، وإن كان الشرف الرفيع في روحه أمراً يلفت كل الأنظار، وإنه لسوء حظه أن هذه الصحراء لم تعطه بعض حقه فكانت (الصين) أكرم منها عليه.
غير أن بعض الشرفاء العارفين كانوا يعرفون له قيمته الرمزية والمركزية.
وأذكر أنني زرت معالي وزير المعارف الرائد الحديث في التعليم الحديث في منزله ذات مساء فألفيته واجماً على غير عادته واصطبغ المجلس كله بالوجوم ولم يخالجني شك في شيء عظيم قد حصل ولم يلبث معاليه أن سألني قائلاً: هل قرأت مقال الأستاذ العزاز المنشور هذا اليوم، ولم يدعني لأجيب بل دفع إليَّ الجريدة وفيها مقالته عن المرض الذي أصابه، وفيها من القوة الدافعة والروح الدافقة، ما لايقدر عليه إلا النوادر من كبار الأدباء والفنانين الذين لايجود بهم الزمن إلا في بعض العصور الذهبية القليلة، والله وحده يعلم أنني حضرت في ساعات فَقَدَ الدكتور الرشيد بعض أقربائه وأقرب المقربين إليه فلم أر مثل هذا الحزن العميق والشفيف والناحل مثل حزنه على مرض العزاز فلاعجب أن يكون على رأس المصلين والمعزين، والله وحده يعلم أنني أكتب الآن وأنا أكاد أسرق وجهي من الورق لعلمي بأن الكتابة عن العزاز شاسعة مثل هذه الصحراء الشاسعة، والله وحده يعلم أن الكتابة عن أنواء العزاز مثل الكتابة عن أنواء الصحراء لا يمكن اختزالها في مقالة واحدة وهيهات إذن أكتب عن العزاز وأنواء أم شيهانة شاسعة ومنهمرة لا تطاق وكذلك شيهانة، هل أكتب عن العزاز ومواتاة الشموس وكرم الصحراء وبخلها عليه. أو العزاز وبقية الأسرة بدءاً بوالده العظيم وإخوانه الميامين النابهين ما شاء الله تبارك الله. وهل أبدأ بهذه الزوجة النادرة أم شيهانة لابد من كتابة شيء عظيم عن هذا الرجل، إنه الزهرة النادرة التي جاد بها الزمن وكان ميلادها في (رياض الخبراء) مثل زهرة في مغارة لا تنال منها الشمس.
إنه زهرة أسطورية حاولت سياط الشمس أن تشويها فازدادت أريجاً وسمواً، وحاولت الحياة أن تعصف بها فأعياها بقوة العقل الكامل، العقل الحي ولا عزاء في مثله ما بقي في الأسرة أبناء زاكون ووالد منجب، ورفاق ميامين.
لم يكن العزاز رغم تساميه وشرف نفسه ومعاناته ميالاً إلى السخرية أو اقتناص المفارقات المضحكة بين الرفاق لانشغاله بما هو أعظم وأكبر وأنبل وأحمل لدوام الرفقه.
مرة، وكنا جماعة معزومين في الخرج عند الأستاذ منصور الصْغَيِّر صاحب (ألبان البندرية) وحين دلفنا إلى جوف المزرعة وأردنا أن ننزل من السيارة دَمْدَم إلينا كلب أسود هائج قفز من وجار الأرض فارتعبنا كلنا والأستاذ الصغير غافل عنا، وبادرت بالقول بأن الكلب لا يؤذي أي إنسان رفيع النفس، وصورته حسنة، وثيابه نظيفة واقترحت أن ينزل العزاز أول واحد ونحن نتبعه، فنزل يرحمه الله مكرها ولسان حاله يقول: (مكره أخاك لا بطل) وحين خطآ أول خطوة نبح الكلب بأقصى ما في جوفه من وعوعة ثم عوى واستخذى وصار يَتَعكَّف ويتملَّق ويُبَصْبِصْ صوبَ العزاز كالمعتذر النادم، وهكذا كلب الكريم كريم وله معرفة بإنسان كريم كالعزاز.
هذه زهرة الحياةالأولى (تولد الزهرة في الفجر، وفي الفجر نراها ذاوية)
|