يعالج هذا المقال موضوعاً قد يبدو للبعض للوهلة الأولى على أنه متخصص وذو أهمية خاصة فقط للمعماريين. وهذا صحيح جزئيا وذلك لمتعلقات كلمتي (التصميم المعماري) وهما المضاف والمضاف إليه واللتان تشكلان المبتدأ بالعنوان، وبذلك فهو موجه للمعماريين وبالذات من لهم اهتمام في مجال التصميم المعماري خاصة.
ولكنه في الوقت ذاته مفيد للتعرف على الآلية التي بها يتم إفراز النواتج المعمارية بشكل خاص والتي تدخل ضمن دائرة أوسع وأعم من التصميم والإبداع الفني. وهو عماد تطور الحياة البشرية والقفزات النوعية في تذليل موارد البيئة لخدمة الإنسان وبما يناسب احتياجاته عبر التاريخ.
وتجنباً لأية إطالة أو إملال فسنعمد لتفكيك عناصر المبتدأ والخبر بالعنوان من خلال مجموعة من النقاط التي سنطرحها تباعا هنا.
وفي الشق الثاني من العنوان وهو الهدف الذي نسعى لإلقاء الضوء عليه فإن كان التصميم المعماري كمنهجية يتبع بالضرورة قاعدة كلي/جزئي أو أعلى/أسفل فذاك يعني هيمنة العام على الخاص.
أما إن كان ينبع من إدراك الجزء والذي يتنامى لتشكيل الكل فهذه إحدى المنهجيات المتبعة من قبل بعض المعماريين العرب المعاصرين وذلك من ملاحظاتي الخاصة كمعماري مصمم.
وبذلك فهذا المقال يدعي الجمع بين خبرة عملية مع محاولة تأطيرها ضمن فلسفة نظرية، فما هي أبرز خصائص المنهجيتين؟ وما هي انعكاساتها على الناتج؟ يبدو أن عملية التصميم هي من العمليات المحورية التي بني عليها أساس الكون والتي تشكل بؤرة الحياة وحركيتها من ناحية كما أنها تشكل موضع الإبداع والاتقان الذي تقوم على أساسه جماليات الحياة من ناحية ثانية.
ويبدو أنه من غير المناسب تماماً الفصل بين بدء عملية التصميم تاريخياً وبين الحياة اليومية ذاتها، فالتاريخ يروي أن التصميم والابتكار كان الدافع له الحاجة البشرية الملحة والمستمرة لمجابهة المستجدات وإيجاد حلول إبداعية للمشاكل.
والتصميم عملية ذهنية تتجمع فيها مجموعة من القدرات العقلية والمهارات اليدوية أحياناً، إضافة إلى الخبرات المكتسبة على مستوى الفرد، أو التقاليد أو الأعراف أو المخزون المتوارث شعورياً أو لا شعوريا على مستوى الأفراد.
ولذلك فيبدو أنه من المناسب القول إن عملية التصميم قد بدأت منذ فجر التاريخ ومع تواجد الحياة ذاتها، فحاجات المأوى والملبس والصيد والحركة والتنقل وغيرها قد أفرزت مجموعات مما نعرف وما لا نعرف من الأدوات والنواتج التي عكست العقلية والظروف والمرحلة التاريخية التي برزت بها.
وبذا فقد غدت هذه الأدوات والمبتكرات ذات دلالة على الحقب التاريخية وذات قيمة أثرية لدى علماء الآثار وإحدى وسائل التعريف بهذه الفترة أو تلك.
ويذهب البعض مثل Henrie Glassie الذي درس البيوت التقليدية بولاية فرجينيا بأن هذه النواتج والإفرازات التصميمية تقود لمعرفة العقلية والقرارات التي اتخذت من قبل أسلافنا، وتعكس نمطية في التفكير يمكن استنباطها من النواتج الحسية التي بين أيدينا، أي بكلمات أخرى إن تحليل النتيجة والرجوع بالعكس ذو دلالة في معرفة الآلية التي تمت بها إفراز أي منتج، بل والتعرف على عقلية وطريقة تفكير من أفرزها بالماضي.
وموضوع التصميم المعماري بشكل خاص متعدد الجوانب، ليس فقط لإلمامه بجوانب متخصصة في صميم العمارة بشقيها العلمي والفني، ولكن لتعلق عملية التصميم ذاتها بنواح عقلية ذهنية تدخل ضمن إطار أوسع متعلق بعملية إبداعية وتكوينية تشكيلية تنشأ بالدراسة والمران، وتتبلور مع الزمن والخبرة لتشكل صبغة لهذا المعماري أو المصمم أو ذاك.
ومن هنا فيمكن القول إن عملية التصميم هي ميكانيكية مرحلية في بداية الأمر إذ يمر المصمم بمراحل وخطوات منطقية ابتداء، بيد أنها تتقولب ضمن صبغة تخص المعماري في مرحلة لاحقة، بحيث تغدو نمطاً وطابعاً معمارياً أكثر من مجرد آلية أو منهجية تفكير منطقية، فما هي الآلية التي تمر بها مرحلة التصميم؟
من المعلوم أن عملية التصميم تبدأ بمراحل من التجربة والخطأ وتلمس بداية الطريق مما يعني طرح جميع البدائل الممكنة ومن ثم اختيار الأنسب بمعايير المنطق أو معطيات البرنامج أو متطلبات المالك.
ومن المهم التركيز على هذه النقطة للمعماريين الشبان في بداية طريقهم، إذ ومن عملي مع المعماري راسم بدران لعدة سنوات وبملاحظة المحاولات المتكررة للتفكير بمختلف البدائل والتي قد يبدو للوهلة الأولى أن بعضها خارج دائرة التفكير فيه، أو بحسب تعبير محمد اركون هو من اللامفكر فيه، تولدت لدي القناعة أن هذه هي الطريقة التي يمكن التوصل من خلالها للحل، وذلك بطرح كافة الممكنات واللاممكنات على الطاولة ومن ثم التوصل للحل بطريقة الاستبعاد.
وطريقة التجربة والخطأ وطرح البدائل والاستبعاد هي عملية رياضية محضة، وتتبع قوانين منطقية، ولذلك فمن الخطأ التوصل إلى قناعات مسبقة قبل الدخول في التفاصيل والقدرات المحتملة للبدائل.
ولعل من المناسب الإشارة إلى أن آلية التصميم تظل ثابتة نسبياً بصرف النظر عن طول الخبرة في مجال التصميم، إذ تبقى آلية طرح البدائل التشكيلية والمفهومية Conceptual خاضعة للتفكير العميق ولعملية التحليل والاستنباط.
إنما الذي يمكن اكتسابه إما عن طريق الخبرة أو التعليم فهو المعرفة بالقدرات المحتملة وخصائص المفردات أو العناصر الموضوعة على الطاولة موضوع النقاش.
فعلى سبيل المثال، يبدأ المعماري المصمم عادة في تلمس الطريق للأشكال التي سيستعملها في عكس مفهوم المبنى أفقياً (للمخطط الأفقي) ورأسياً (للواجهات والمقاطع المعمارية).
وهذه المفردات هي أشكال هندسية محضة لها قوانين رياضية وهندسية ينبغي مراعاتها، فاستعمال الدائرة يتطلب احترام المركز والخطوط الشعاعية التي تنطلق منها، والمستطيل هو ذو أفضلية على المربع بوجود ضلعه الطويل والذي ينبغي مراعاته كمحور أكثر تكاملية وذي قيمة اعتبارية خاصة وهكذا.
ومن هنا نرى أن التطور بخبرة المصمم (وهذه النقطة مهمة للغاية) ليس في اختزال خطوات آلية التصميم وهو المزلق الذي قد يقع به بعض المعماريين إنما يتم التطور الذاتي لمعرفة المصمم في إدراك القدرات التي تمكنه المفردات والعناصر المستعملة في التصميم من توفير حلول أفضل إن أحسن استعمالها.
وبعيداً عن الدخول في تفاصيل تحليل العناصر الثابتة والمتغيرة، يمكن القول إن التصميم ينبغي أن يكون انعكاساً مباشراً لهذه العوامل الثابتة كخصائص الموقع وطبوغرافيته وعوامل الطقس وحركة الشمس النهارية وموقعها من المبنى، إضافة لحركة الرياح وطبيعة المؤثرات المجاورة وإطلالة الموقع كالمناظر المحبذة أو التي ينبغي التواري عنها، وكذلك الشوارع المحيطة والتي تؤدي من وإلى الموقع وغيرها.
أما العناصر المتغيرة فتشمل الفكرة المعمارية والبرنامج الوظيفي، بالإضافة إلى محلية أو اقليمية التعامل مع العمل المعماري وغيرها.
وبقدر ما تزيد المؤثرات المحيطة بقدر ما تزداد الفرصة لإعطاء حل أكثر إثارة ونجاحاً رغم زيادة التحدي الذي يقابل المعماري المصمم.
وعدا عن هذه المؤثرات، وضمن مرحلية التصميم في نقطة ما يقابل المعماري منهجيتين في التعامل مع العمل المعماري، والذي شأنه كشأن أي عمل إبداعي لا بد له من لحظة مولد (لا زمنية) بمعنى أنها من الإبداع والخلاقية بمكان أنها تولد التصميم لاحقاً، وهاتان المنهجيتان هما أبرز ما ينقسم إليه معماريو العالم العربي المعاصرون:
الأولى والتي يمكن أن ينتمي إليها المعماري حسن فتحي، تمثل الانتقال من الجزء إلى الكل، أو يمكن تسميتها bottom-up .
وتعني ببساطة الاعتماد على مجموعة من المفردات الجاهزة لتشكيل التصميم الكلي.
أما الثانية ويمكن أن نرى المعماري راسم بدران ضمن إطارها فهي رسم الصورة الكلية للمشروع ومن ثم الانتقال إلى التفاصيل الجزئية التي تراعي المخطط الهيكلي الكلي الذي تم رسمه أو هي top-down.
وكلا المنهجيتين تحتاجان طول الخبرة والتعامل مع المفردات وأجزاء العمل الواحد ببراعة، ولكن من المهم الإشارة الى أن الأولى قد يعتورها التجميعية كمأخذ، فيما قد يغلب على الثانية اقحام الوظيفة ضمن الشكل، وهما موضوعان مهمان نبحثهما في المقال القادم.
|