* موسكو: الجزيرة:
(لكتابة هذا الموضوع تمت الاستعانة بدراسة للباحث الأمريكي جورج جيبيان تحت عنوان «ليونيد باسترناك وبوريس باسترناك: جدال الأب والابن»، قامت مجلة «قضايا الأدب» الروسية بترجمتها من الإنجليزية)
يتصور البعض أن التقارب بين الروس واليهود قد حدث فجأة بمجرد انهيار الاتحاد السوفيتي ويرجعون ذلك إلى أن السياسة السوفيتية في مسألة القوميات كانت غير صحيحة ومجحفة بحق جميع القوميات بما فيهم الروس غير أن الحقيقة التاريخية المهمة هي أن اليهود نالوا حقوقهم الكاملة مع بداية السلطة السوفيتية بعد الاستعباد القيصري لليهود وغير اليهود، وقامت حكومة الثورة تحديداً بمنع نشر وطباعة الدعايات المناهضة لليهود وعلى رأسها «بروتوكولات حكماء صهيون» لأنها رأت أن مثل هذا العمل اتهام خطير لليهود يمكنه أن يثير الجميع ضدهم. ومنعت أيضا مقال ديستويفسكى المهم «المسألة اليهودية»، ومنعت كتابات فاسيلي شولجين حولهم أيضا على الرغم من إنه لم يكن شيوعيا، وإنما ضد الشيوعية وحارب في صفوف الجيش الأبيض، وطبعا لن نتحدث عن أن دولة إسرائيل قامت بدعم مباشر من الاتحاد السوفيتي الذي كانت إحدى أهم حلقاته الاعتراف بها في الأمم المتحدة، واحتل اليهود تحديدا مناصب خطيرة في الحكومة السوفيتية منذ بدء الدولة وحتى انهيارها بيد أن أكثر ما أثار اليهود ضد الدولة السوفيتية هو أن السياسة القومية السوفيتية كانت ضد عملية التمايز القومي لدولة تضم أكثرمن 150 قومية، وهذا بطبيعة الحال لا يرضي «أية عقلية» تنحو إلى التمايز بوعد إلهي، وتسعى إلى التفوق ولو حتى على حساب الآخرين. وتمعن في تغليب الشخصي والذاتي على العام والموضوعي، وتكفر الآخر بصكوك ربانية، وبالتالي كان لابد من العداء المستحكم بين اليهود والدولة السوفيتية، الذي ظهر بشدة بعد الانهيار وليس قبله. إذ سيطر اليهود تحديدا على كافة منظومة الحياة الذهنية والإبداعية في الاتحاد السوفيتي، ناهيك عن المؤسسات الأمنية والثقافية.
الخطير في الأمر أن اليهود الذي يؤلهون «الهولوكوست» يتجاهلون 25 مليون ضحية من الجنود السوفيت في الحرب العالمية الثانية، وكأن هذه الحرب كانت موجهة فقط لإبادة اليهود، وفي الوقت الذي يعتبرون فيه أن مقاتلي حرب «الأنصار» أو «العصابات» السوفيت خلف خطوط العدو النازي مجرد إرهابيين، وهو ما يتماشى مع الموجة السائدة حاليا ضد أي مدافع عن أية قضية، نراهم يمجدون دور أي مواطن يهودي في أية دولة سواء كان يمارس التجارة أو التجسس أو شارك في حرب مثل بقية مواطني الدولة التي ينتمي إليها طوال السنوات التي تلت انهيار التجربة السوفيتية أمعن اليهود في ترسيخ شيء آخر تماما ألا وهو أن الشعبين الروسي واليهوي لديهما رسالة تاريخية «سامية» يجب نقلها إلى البشرية مهما تعرضا إلى كوارث أو مذابح تلك الرسالة الإنسانية «المجيدة» هي السبب المباشر لما يتعرض له اليهود من تشرد ومطاردة ومذابح طوال تاريخهم. ولما يتعرض له الروس من انحطاط في مستوى المعيشة. وعبودية.وتجريب أبشع وسائل الحياة على نفسه قبل الآخرين (وهنا يستشهدون بأن الروس جربوا على أنفسهم أسوأ نظام اجتماعي ظهر في التاريخ، وهو النظام الاشتراكي).
طوال تلك السنوات ظهرت إلى الوجود وثائق ومقالات وأفلام ومسرحيات تبرز دوراليهود في بناء الثقافة الروسية التي لولاهم لما ظهرت إلى الوجود، وتمجد دور اليهود في انتصار الجيش الروسي عام 1912 على جيوش نابليون التي احتلت روسيا، ولولا دور اليهود بالذات لظلت روسيا رازحة تحت وطأة الاحتلال الفرنسي..
ولعل العمل التاريخي - الأدبى- الوثائقي الذي كتبه الشاعر الروسي - اليهودي بوريسباسترناك (دكتور جيفاكو) هو أنصع دليل على تلك المقارنة على الرغم من أن باسترناك حاول قدر الإمكان انتزاع جميع الصفات التي يميز اليهود بها أنفسهم ويلصقها بالروس تحديدا، غير أن مثل تلك المحاولات تبين من زاوية أخرى مدى أحقية هذين الشعبين بالذات وفقط بالحياة الكريمة وتمايزهما عن سواهما من الشعوب.
45 عاماً
ولكن لماذا نستشهد في موضوعنا هذا برواية بوريس باسترناك ابن العالم الروسي ليونيد باسترناك وليس بأدبيات أخرى أكثر دقة وتوثيقا في هذه القضية تحديدا؟
أولا- لأن الأوساط الثقافية والإعلامية الروسية تحتفل طوال الأسبوعين الأخيرين بمرور 45 عاما على صدور أول طبعة لرواية «د. جيفاكو» في إيطاليا.
ثانيا- لأن الأدب، وخاصة إذا كان صاحبه قد حصل على جائزة نوبل، وبالذات «الشاعر» باسترناك الذي نال الجائزة على هذه الرواية تحديداً يمكنه أن يلعب دورا خطيرا في أوساط ليس فقط المثقفين والمتخصصين، وإنما في أوساط الناس العاديين جدا (نسبة الأمية في روسيا ومن قبلها الاتحاد السوفيتي لم تتجاوز الصفر!).
ثالثا- يتم حاليا استخدام كافة الوسائل في محاولة لتحييد الروس عن أي دور في أية قضية خاصة باليهود وبالذات قضية الشرق الأوسط. بل ويتم الترويج حاليا لواحدة من أضخم الحملات الإعلامية منذ الحرب العالمية الثانية، ألا وهي مفاهيم «الجبهتين الأماميتين» لمواجهة «الإرهاب» حيث تمثل روسيا الجبهة الأولى، وإسرائيل الجبهة الثانية.
رابعا- تنامي حالة الرعب لدى إسرائيل ويهود العالم من التغيرات الدولية السريعة، والبحث عن حليف مرحلي، جديد يمكنه ضمان أمنهم والحفاظ على مصالحهم هذه النقطة بالذات، وفقا لآراء العديد من الباحثين مرتبطة بوصول الولايات المتحدة إلى مرحلة عالية من التطور التقني- العسكرى، أو بكلمات أوضح وصول الولايات المتحدة إلى أعلى مراحل الامبريالية مثل كل الإمبراطوريات القديمة، وبالتالي هناك إمكانية لانهيارها وفقا لدورات التاريخ البشري، ومثلما احتمى اليهود بالإمبراطورية الفارسية قبل الميلاد، وبالإمبراطورية الإسلامية ثم بالامبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وبعد ذلك بالإمبراطورية الأمريكية، يحاولون اليوم استشراف التاريخ بأقصى سرعة، ودقة ممكنة للالتحام بالقوة، أو القوى القادمة.
ونظرا لأن أوروبا ظلت تلفظ اليهود طوال القرنين الثامن والتاسع عشر، ونجحت إلى درجة كبيرة في إبعادهم بإنشاء دولة إسرائيل بعيدا عن حدود أوروبا، كما أن دولة مثل الصين لا يؤهلها تاريخها. أو تركيباتها القومية والدينية، أو نظامها السياسي- الاجتماعي قبول تحالف استراتيجي مع دولة مثل إسرائيل تبقى روسيا هى المرشح الوحيد لاحتلال مكان الإمبراطورية الأمريكية بالنسبة لإسرائيل ويهود العالم.
خامسا- سعي إسرائيل إلى تحويل الصراع بين «الشعبين الروسي واليهودي» على امتلاك مفهوم «الأمة السامية ذات الرسالة الخالدة» إلى تحالف بين أمتين تعانيان الذل والقهر، وتواجهان الإرهاب، ومن ثم حتمية توحيد الأهداف ضد العدو المشترك من أجل استكمال المشوار التاريخي ل«إبلاغ الرسالة التاريخية».
باسترناك الأب
ولد ليونيد باسترناك (1862/ 1945) بأوديسا في عائلة يهودية، وكان أبوه صاحب خان حيث استأجر بيتا به ثمانى حجرات راح يؤجرها إلى الفلاحين والرعاة. درس ليونيد باسترناك الطب في موسكو، ولكنه ما لبث بعد ذلك أن اتجه إلى دراسة القانون، وفي نهاية الأمر اختار الرسم عام 1882 قضية لحياته.
غادر ليونيد باسترناك روسيا السوفيتية في خريف 1921 وفي عام 1924 زار فلسطين بعد أن تلقى طلبا من أحد الناشرين بتحقيق رسوم لكتاب عن هذا البلد، وفي الثلاثينات فكر في العودة إلى الاتحاد السوفيتى على أثر تصاعد قوة النازيين في ألمانيا.
غير ان رواية دكتور جيفاكو لبوريس باسترناك الابن كانت عملا في غاية الأهمية فكثيراً ما كان يكرر أنه يأمل بهذا العمل أن يكسب شريحة من القراء أوسع بكثيرمن قراء شعره، ولهذا على وجه التحديد ومن أجل أن تتقبل الجماهير العريضة مغزى روايته فائق الأهمية بالنسبة له اتجه باسترناك إلى السرد حيث رأى أن الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه، والذي اختاره لنفسه في نهاية حياته لن يتحقق عن طريق شعره الذي يتركز على عالمه الداخلي، ولا عن طريق سرده الرمزي الحداثي المعقد في المراحل المبكرة، وقد كان باسترناك مقتنعا بأن القراء في منتصف القرن العشرين لن يتمكنوا من استيعاب المغزى المراد من روايته إلا إذا كان على شكل سرد واضح، وبالتالي سعى إلى إجمال كل محصلة إبداعه، والتعبير عن كافة الأفكار الأكثر أهمية من غيرها بالنسبة له حول روسيا في تلك المرحلة التاريخية، وعن حالة روح الإنسان ككل، ووصف باسترناك هذه الرواية بأنها «أهم أعماله الرئيسية»، وأنها كتاب عن أهم الأشياء التي دفع عصرنا ثمنها دما وجنونا، ولذا يجب أن يكتب بمنتهى الوضوح والبساطة، وبالتالى فأهم الموضوعات المركزية لرواية «دكتور جيفاكو» بما تحويه من الأفكار التي أرَّقت باسترناك.
تعتبر رحلة قهقرية مزدوجة في الزمن أدت بالكاتب إلى التصادم- مع جميع التغيرات والتحولات-في البداية مع آراء أبيه حول الطابع المميز لليهودية (المطروحة في كراس عن ريمبرانت)، ومن ثم مع التصورات التقليدية لأصحاب النزعة الروسية حول الرسالة التاريخية والخواص المميزة للأمة الروسية والأدب الروسي.
من ذكريات أصدقائه نجد أن بوريس باسترناك لم يشارك أباه لا في وجهات النظر المتعاطفة مع الصهيونية حول الطابع القومي اليهودي ولا في تمجيد الروحانية اليهودية. وكانت علاقته بأبيه معقدة.
الطابع اليهودي
ومع ذلك فأحد أهم موضوعات رواية «دكتور جيفاكو» يفند مباشرة آراء والد بوريس باسترناك ألا وهو انتقاد المسلَّمة الصهيونية الرئيسية أي الأهمية الضخمة التي تعطى من أجل الحفاظ على الطابع القومي اليهودي وإقامة دولة مستقلة.
إضافة إلى ذلك فالرواية تنقل بعض آراء ليونيد باسترناك، وتصل إلى حد إلصاق تلك الصفات التي كان يرى فيها الأخير مواصفات يهودية، بالشعب الروسي بل ونسبة الآراء الواردة في كتاب العهد القديم إلى المسيحية والعهد الجديد، وفي مذكرات أشعيا بيرلين وفي الكثير غيرها من المصادر يتأكد أن بوريس باسترناك كان وطنيا روسيا- كان إحساسه بالارتباط التاريخي مع بلاده عميقا جدا، وكتب بيرلين أيضا: .. تلك الرغبة الجامحة والمرضية تقريبا في أن يعتبر أديبا روسيا تمتد جذوره عميقا في الأرض الروسية كانت بادية بوضوح متميز في موقفه السلبي من أصله اليهودي كان يتهرب من مناقشة هذا الموضوع ليس لأنه كان يزعجه، ولكن لأنه لم يكن يحبه كان يريد أن يذوب اليهود ويزولوا كشعب.. لقد تحدث معي كمسيحي متدين بالرغم من تمسكه بفكرة راسخة.. ومن الواضح أن تذكيري له باليهود وبفلسطين قد سبب له ألماً شديداً.
شعب الله المختار
إن بوريس باسترناك يرى ان المعاناة والصبر سمات مميزة لروسيا، ففي «دكتور جيفاكو» روسيا هي التي تتعرض للكثير من المصائب والمآسي، لكن في رأي ليونيد باسترناك الأب، كل هذا من علائم تاريخ اليهود، على هذا النحو يسحب بوريس باسترناك من اليهود ما وصفهم به أبوه ويلصقه بالروس. ولكن من الضرورى الإشارة إلى أن ليونيد باسترناك الأب قد رأى بدوره في اليهود وفي تاريخهم تلك السمات التي يعتبرها أصحاب النزعة السلافية في القرن التاسع عشر سمات روسية مميزة. فالميل نحو الآلام يمجده ديستويفسكي وغيره من الأدباء كسمة روسية صرفة. وهكذا كان موقفهم أيضا من الكيمياء الروحية المتميزة التي يستطيع الروس بفضلها تحويل المعاناة والعذاب إلى ما هو سام.
وهكذا يمكن القول إن الابن قد أعاد تلك السمات التي ادعاها أبوه إلى أصحابها السابقين. إن البساطة واحتقار كل ما هو متصنع ومتكلف، والتواضع- هي الصفات التي وردت في كتاب ليبونيد باسترناك كسمات يهودية، ولكنها في «دكتور جيفاكو» قد نسبت تحديدا إلى الروس. هنا يجرى الحديث مرة أخرى حول نفس الأمر: يهود ريمبرانت الذين تم إلباسهم الصفات التي تحدثنا عنها يتحولون إلى روس القرن العشرين.
هرطقات
نصطدم أيضا مع أحد جوانب الصراع التاريخي للروس مع اليهود على نفس الحق- أن يكونوا شعباً مختاراً على أرض مقدسة. ويمكن أن يكون تاج هذه الأرض موسكو التي يمكنها، مثل روما الثالثة، أن تحل محل القدس الجديدة. ويصف ليونيد باسترناك، محافظا على النظرة التقليدية إليهم كشعب مختار، بأنهم مثل أطفال مرتبطين ارتباطاً وثيقاً بربهم، فهم أحياناً أشقياء وغير مطيعين، وأحياناً يطلبون الصفح والمغفرة فى خضوع.
أما في «دكتور جيفاكو» فالروس تحديدا هم الذين يملكون ارتباطاً خاصاً. ولكن ليس مع الله، إنما مع التاريخ، فروسيا هي درس تاريخي وروحي للبشرية كلها باعتبارها الأمة التي تحملت النصيب الأكبر من الآلام و«الدماء والجنون»، وروسيا التي أصبحت أول دولة اشتراكية وتحملت القهر والدمار، أظهرت بهزاتها الداخلية أن هذا هو ما يحدث لأولئك الذين يؤمنون أولا بالنظرية المجردة، والذين يفوزون بالسلطة أثناء عملية «إعادة تفصيل» المجتمع ويبدأون بإعادة تكوين البلاد دون النظر إلى الموقف الآخر النقيض نحو الحياة: تأملها وفرحها بالغموض والتضحية، وبالانبعاث والتجديد الأبديين. أما الصفات الأخرى التي يمتدحها ليونيد باسترناك لدى اليهود وتتحول في «دكتور جيفاكو» إلى الروس، هي العفوية البدائية والقرب من الأرض ونمط الحياة الأبوي العظيم، وهذه الصفات نجدها في الرواية ضمن صفات طبيعة جيفاكو ولارا وتونيا التي أطرى عليها المؤلف. إن العلاقة بين آراء بوريس باسترناك ذات النزعة السلافية وتوجهات أبيه اليهودية تزداد تعقيدا بسبب كون الكثير من القيم الروحية لدى المثقفين الروس تذكر بما يعتبر سمات تقليدية للشعب اليهودي . فهذا على سبيل المثال رأي أحد اليهود في شعبه: «.. لم يؤمن اليهود، على عكس جيرانهم، بألوهية القوانين وقدسيتها.. صورة الماضي المنتقلة من جيل إلى جيل تضمنت الكثير من المشاهد التي توحي الحكمة المستخلصة منها بالريبة، إن لم نقل بعدم الثقة تجاه السلطة السياسية والمشاركة في الحياة السياسية".
ونلاحظ ان عدم الثقة التي يكنها الراوي وأبطال «دكتور جيفاكو» الآخرون تجاه سلطة القيصر وسلطة البلاشفة، والنشاط السياسي والاجتماعي بشكل عام، تشبه إلى حد بعيد البديهيات اليهودية القديمة. ولكن من الجائز أن يكون انعدام الثقة هذا له جذور روسية. ومن الممكن أن ننسب إلى «دكتور جيفاكو الرأي التالي حول طبيعة الشعب اليهودي المتكونة تاريخيا دون إبدال كلمة واحدة: «الريبة السياسية. عدم الثقة بالسلطات وباستخدامها. إدراك محدودية إمكانات السياسي- ليست مجرد سمات معروفة للجماعة اليهودية التقليدية. بل هي أيضا دروس الماضي للأجيال المقبلة. كما أن المصادفات التي يمتلئ بها التاريخ اليهودي في مرحلة العهد القديم. حسب رأي ميناسي بن إسرائيل. (مثل الحجر الواحد الذي ظهر في عدة مشاهد مركزية)- تبرز أيضا في «دكتور جيفاكو» ولكن على مستوى أكثر تواضعا- ليس في حياة سادة العالم كله. بل في حياة أبطال الرواية العاديين. فالناس الذين لا يظهر الترابط فيما بينهم إلا فيما بعد يجتمعون في مكان واحد دون أن يدرك أي منهم إلى من قاده القدر. فالغرفة نفسها. والستارة، والبيت. والأدوات المنزلية اليومية الأخرى ذاتها- تصبح جميعا الشاهد على ذلك التقاطع المتكررعلى الدوام بين أقدار مختلف الأبطال.
تناقضات بوريس باسترناك
المركز الفكرى الثاني لرواية «دكتور جيفاكو» هو مجابهة وجهات نظر أنصار النزعة السلافية حول طبيعة روسيا والفهم التقليدى لدور الكاتب. فالرواية. انطلاقا من اتجاهات الطابع القومى الروسي والرسالة التاريخية لروسيا المعبر عنها من خلال الأبطال والموضوعات والراوي. هي عمل روسي نموذجي. لقد شهد الكثيرون من الأصدقاء والمعارف. كما شهدت الرواية نفسها. أن باسترناك كان يحس ويشعر بنفسه روسيا.
تمجيد التاريخ الروسي
يجب بداهة أن نكون حذرين وانتقائيين أثناء استخلاص الاستنتاجات من رواية باسترناك حول موقفه من «روسيته» عندما نتذكر تحذيره الذاتي الذي أورده إلى أحد مراسليه من الألمان عام 1958: «أنا لست على تلك الدرجة من الانحطاط أو الحدة أو الشجاعة لكي أناقش موضوع الأمم وأقول: نحن. نحن الروس. يجب أن تقرأوا «دكتور جيفاكو». فهناك كل شيء أعمق وأكثر تواضعا ودقة وتحديدا. كل شيء يدور حول فكرة الفرد. لقد أوضح باسترناك مرارا وبشكل محدد أنه يعتبر «دكتور جيفاكو» رواية روسية عن مصير روسيا. فأحداث الرواية تدور كلها في روسيا. وروسيا في ذات الوقت هي المركز الدائم للراوي. وهي الشخصية الرئيسية. وهي المعذبة الأساسية.
عفوية الروس
لقد عبّر «الدكتور جيفاكو» عن واحدة من أحب أفكار باسترناك عن روسيا. إذ رأى أن العفوية هي السمة الرئيسية للطابع القومي الروسي. فحين يروى جيفاكوكيف قام القيصر باستعراض القوات في «جاليتسا». يضيف بأنه كان عفويا على الطريقة الروسية وأكثر دناءة وتمثيلا من القيصر الألمانى. وأنه «لا معنى لهذه المسرحية في روسيا». ولنتذكر أن هذه العفوية التي يتم امتداحها هنا عند الروس كان ليونيد باسترناك قد نعت بها اليهود في السابق. بعد ذلك يعبرجيفاكو عن أن عدم تساهل المراحل الأولية للثورة وصرامتها هما تقليد قومي روسي. والأكثر من ذلك-فإن التنويرية غير المتحفظة لبوشكين. والإيمان غيرالمراوغ بالواقع لتولستوي. وأن كل ذلك قد تم إيصاله حتى النهاية دون خوف. يعني هناك شيء ما قومي- قريب معروف منذ زمن بعيد حسب رأي جيفاكو عندما كان لا يزال منبهرا بتلك السمات التي خلقها النمط الروسي والرجعية الروسية النموذجية. ولكن بعد قليل تتشتت آماله في أن تقوم الثورة بتحقيق كل الأحلام القديمة. هل توجد في روسيا الآن حقيقة؟ يسأل. ويجيب هو نفسه: «أعتقد أنهم أخافوها لدرجة أنها تختبئ. إن المهارة في تحويل مخلفات الحياة الخاملة إلى إلهام للأجيال القادمة هي حسب رأي جيفاكو. من خواص الأدباء الروس العظام. ويرى جيفاكو أن أفضل نموذج لهذا التحويل هو «الطفولة الروسية» لبوشكين. حيث يكتب أن الرائع هو العادى. ولكن عندما تمسه يد العبقرية. ومن وجهة نظره. فبوشكين وتشيخوف قد تميزا بعدم الاهتمام المذعور بتلك الأشياء الصارخة مثل الأهداف النهائية للبشرية وخلاصها الذاتي. وكتبا عن خصوصيتهما الذاتية المتواضعة المتعلقة بالحياة اليومية.
كل الوجود الروسي يتحول إلى جزء ومصدر ومادة ونموذج للوزن المحبب للشاعر. والشعر هو أحد أعظم الوسائل التي استخدمها الناس لتحقيق الخلود الذاتي والتقرب إلى أرواحهم الخاصة عبر أسوار القرون. وهو بدوره يعكس روسيا كنموذج تفصيل لقماش الخياطة.
على غرار ذوي النزعة السلافية يقوم باسترناك البساطة بشكل راق معتبراغيابها عيبا خطيرا. ويبجل لهفة الشخصية ومباشرتها. كما ان الحقائق التي تعبرعنها الأمثال الروسية ومؤلفات ذوي النزعة السلافية في القرن التاسع عشر كانت قريبة أيضا من لارا (احدى بطلات الرواية) التي كانت بدورها ضد التزمت والتمسك الصارم بالمبادئ. وكانت تدين الخيال المتهيب. ففي الرواية يتم امتداح المشاعر بشكل مستمر. كما إن احتقار المظاهر الخارجية أيضا مثل الرسميات والأبهة.
واحتقار كل دخيل بالنسبة لباسترناك كانت ظاهرة روسية خالصة (هذا يذكرنا بأصحاب النزعة السلافية في القرن التاسع عشر الذين كانوا يناقشون الفوارق بين الروس والأوروبيين الغربيين). بل وكان يعادي أيضا أيضا قوة الإرادة. إذا كانت ترفض في «دكتور جيفاكو» أولوية الإرادة في الحياة كأحد الأمور غير الروسية. إن الروس المناصرين للغرب يتمسكون بالجمود ويرتاحون ل«الكلمات والمظاهر».
وجيفاكو يبحث عن الفكرة البسيطة. ولكن في نفس الوقت الساطعة التي يمكنها أن تتوجه مباشرة إلى الناس البسطاء الأميين. وهذه الفكرة يجب أن تكون محسوسة ومفهومة ومعبرا عنها في صورة محددة.
تكرار الأفكار
أما بشأن الخواص الأدبية للرواية. ف «دكتور جيفاكو» نموذج للسرد الروسي في القرن التاسع عشر. وطبقا للتقليد الروسي. يتناول باسترناك القضايا التاريخية والفلسفية فورا، وعلى سبيل المثال يؤكد إريخ آويرباخ في استعراضه الواسع للواقعية الغربية أن النظم النظرية غير المسبوقة للبراهين تُرْتَجَل أثناء الحركة في الرواية الروسية الواقعية. إضافة إلى انه في كل مرة يتناول الحديث «آخر» القضايا الأخلاقية والدينية والاجتماعية. ويرى آويرباخ أن التقبل الجدة لمظاهر الحياة اليومية كان بالنسبة للكتاب الروس من المعطيات الموجودة منذ البداية حيث إن جمالية الكلاسيكية التي تنفي بشكل مبدئي الموقف الجدي من «الأدنى» كجنس من أجناس الإبداع الأدبي لم تستطع أن تترسخ وتتأكد في روسيا.
هذه المقولة تطرح بدقة طريقة باسترناك في «دكتور جيفاكو». وتجسد أيضا مغزى الرواية الذي يكرر كالصدى الفكرة الأساسية لوالده عن التقاليد اليهودية والعهد القديم: مشاهدة المهم جدا في التافه ظاهريا. وكما يلاحظ آويرباخ. فالأدب الروسي يستند إلى أساس من التصورات المسيحية الأبوية حول كرامة كل إنسان«كمخلوق» أيا كانت الطبقة التي ينتمى إليها. وأيا كان الوضع الذي يشغله. ومن هنا ينتج أن الأدب الروسي أقرب إلى الواقعية المسيحية منه إلى الواقعية الأوروبية الغربية المعاصرة.
الحرب والسلام
إن إشراك عدد كبير من الشخصيات منذ بداية الرواية يذكرنا بحبكة «الحرب والسلام». إذ يصعب على القارئ في البداية أن يدرك من هم الأبطال الرئيسيون. ومن هم الثانويون. وكما هو الحال في الحرب والسلام يصطدم القارئ بعدد ضخم من المشاهدالقصيرة. ولا توضح الرواية التركيب المتدرج لأبطالها إلا بعد الصفحات المائة الأولى. إلا إن العلاقة المتبادلة بين حياة الناس ستظهر وتتأكد بعد ذلك من قبل المؤلف. فاتساع اللوحة والانتقال من الحياة الفردية للأبطال إلى الأحداث التاريخية. والمشاركة المباشرة للشخصيات المختلفة في الأحداث التاريخية الواقعية -كذلك أيضا من تقاليد تولستوي. ومع تطور الرواية يصبح الوصف التفصيلي لروسيا أكثر أهمية. ففي البداية يجري الحديث عن علامات الأرض الروسية الطبيعية.
وعندما تصبح تقليدية بما فيه الكفاية. تبدأ بحمل شحنة انفعالية معينة. ولكنها تبقى في مجملها غير معمقة. غير إنه في النصف الثاني من الرواية. أثناء وصف الحرب الأهلية تكتسب صورة روسيا مغزى مأساويا عميقا. إذ تصبح أرض المآسي التي ليس لها مثيل. وتصبح تحذيرا للعالم كله. إن باسترناك يصف الأحداث التي جرت في تلك السنوات بروسيا . كان ليونيد باسترناك يرى اليهود أمة استثنائية خفية مغلقة بالنسبة للأمم الأخرى. أما ابنه فيضفي هذه الصفات على الروس. وانطلاقا من دكتور جيفاكو فتاريخ الشعب الروسي. وتحديدا الروسي وليس الشعب اليهودي. هو المثال الذي لا سابق له من المحن خلال زمن قصير جدا. وهذا التاريخ بالذات هو الأكثر دقة في التعبير عن جوهر اليأس الكوني- هي حالة نموذجية سائدة بالنسبة للروح البشرية في القرن العشرين.
الرسالة الروسية
إن أفكار جيفاكو عن «لارا» توضح تصورات المؤلف عن روسيا. فعندما يهرب ليفيريا من الفدائيين ويصل إلى غرفة لارا في يورياتينا. يبدأ تأملاته حول. من هي لارا بالنسبة له. ومن كانت الأمر الذي يغرقه في الأفكار حول روسيا، ومن ثم حول «لارا »ثانية: ها هو مساء ربيعي في الخارج. الهواء مختلط كليا بالأصوات. أصوات الأطفال الذين يلعبون متناثرين في أماكن متباعدة. وكأنها ترمز إلى أن الفضاء كله مليء بالحياة. وهذا المدى الرحيب - روسيا المتفردة الصاخبة خلف البحار. الولادة العظيمة. الشهيدة. العنيدة. المتهورة. المشوشة. الخاشعة.ذات النزوات العظيمة دائما القاتلة. التي لا يمكن توقعها أبدا! آه. ما أحلى الوجود! ما ألذ الحياة في هذه الدنيا. وما أجمل حب الحياة! آه. ما أكثرما أجدنى دائما مندفعا لأقول شكرا للحياة نفسها. للوجود نفسه. لأقول هذالهما ذاتهما وفي وجهيهما! إنها لارا: الكلام معها مستحيل. لكنها تمثلهما وتعبر عنهما. هي هبة السمع والنطق التي منحتها بداية الوجود الخرساء.
إن لارا تتحدث وكأنه لا يوجد في تاريخ البشرية إلا لحظتين (الزمن التوراتي والقرن العشرين في روسيا). لارا وجيفاكو يحتفظان في ذاكرتيهما بذكريات مرحلتين من مراحل التاريخ عندما كان الناس «عراة مشردين». المرحلة الأولى كانت بداية العالم. والمرحلة الثانية في نهايته - في روسيا السوفيتية أثناء الثورة.وفي بداية القرن العشرين. كلاهما يفهم هذا. وكلاهما يقدر للآخر الحب والاقتراب كذكرى. كشيء مقدس. كهبة. كتمثال لكل شيء عظيم صنعه الإنسان بين بداية العالم ونهايته. لقد سبق لجيفاكو نفسه أن عبر عن مثل هذه الأفكار عندما كان في المستشفى العسكري أثناء الحرب العالمية الأولى: فكروا. أي زمن هذا الآن! ونحن وإياكم نعيش في هذه الأيام! إذ إن هذا الأمر الذي لا مثيل له لا يحدث إلا مرة واحدة في الأبد. فكروا: لقد انْتُزعَ السقفُ من فوق روسيا كلها. وها نحن والشعب كله نجد أنفسنا تحت سماء مكشوفة. ولا أحد يختلس النظر إلينا. حرية حقيقية ليست في الكلمات أو في المتطلبات. «دهشة مؤقتة بالثقل الذي أُلقِي اتساع الحرية المكتسبة مرة أخرى. الإحساس بخطورة مهمة روسيا- كل هذا مجتمعا يشكل حدثا في غاية الندرة: امتياز خاص. تفرد في الحياة في هذا العصر. وكل هذه المشاعر مرتبطة بروسيا وبالثورة. ويسير جيفاكو قدما.
يؤكد استثنائية الأحداث ليمد الجسور إلى فترة زمنية مهمة -إلى زمن يسوع المسيح والأناجيل- وكذلك إلى إيمانه الرئيسي بوحدة وترابط كل الكائنات على الأرض: بالأمس راقبت حشدا ليليا. إنه مشهد مدهش. أمنا روسيا تحركت كلها. لا يمكنها الوقوف في مكانها. تسير فلا تتعب. تتكلم فلا تشبع كلاما. لم يكن الناس وحدهم فقط يتحدثون- تجمعت النجوم والأشجار لتتحدث. الزهور الليلية تتفلسف. والمباني الحجرية تحتشد. إنه شيء ما إنجيلي. أليس كذلك؟ تماما كما في زمن الرسل. أتذكرون. عند بولس؟.. تكلموا بألسنتكم. وتنبؤوا. صلوا من أجل هبة التفسير». على هذا النحو تصبح روسيا الواقعة تحت التأثير التحرري للثورة مسرح الأحداث الذي يذكر بزمن الأناجيل العظيم الماضي. تحرير روسيا يولد تفاهما بين العصور. فتقوم الصلة بينهما: تظهر إمكانية الكلام والتفاهم بين بعضها البعض. ويتحدث جيفاكو عن الزمن حينما يمكن وصف كل ما يجري بالكلمات: تحركت أمنا روسيا . هذه الصلة تؤدي إلى العمومية. وإلى الإحساس بوحدة جميع المخلوقات والناس والطبيعة. و«النجوم والأشجار».
الفكرة القومية
في كل هذا السياق قام قسم الأدب الروسي بمجلة «قضايا الأدب» الروسية بالتعليق على الجدل الدائر حول شخصيتي باسترناك الأب والابن. وحول الرواية وأفكارها والواقع القومي في روسيا. ورأى الباحثون الروس أن هناك 3 وجهات نظر ظهرت في النقاشات الدائرة حول رواية بوريس باسترناك «دكتور جيفاكو»: اثنتان تنفي كل واحدة منهما الأخرى. والثالثة وجهة نظر غير متوقعة. فبمعرفة مضمون الرواية وتاريخ كتابتها ونشرها ومصير مؤلفها. كان يمكن الافتراض أن الحديث سيدورحول القضايا الاجتماعية-الأخلاقية. إلا إنه في الواقع اتجه نحو دراسة القضية القومية . وبتعبير أبسط. فالنقاش دار حول مدى «روسية» رواية بوريس باسترنا كالشاعر اليهودي الروسي. الذي تخلى عن يهوديته واعتنق الديانة المسيحية. ورفض استلام جائزة نوبل. يرى ب. جوريلوف أن الكتاب ليس كامل «الروسية» .
وقد ولَّده الخوف من «فقد قوميته». بينما يعارض ف. فوزدفيجينسكى: الفنان الروسي القومي لم تكن له أية علاقة بمثل هذا الخوف. وقد ترعرعت روايته على تربة مغايرة تماما. إلاأن الباحث الأدبي الأمريكي ج. جيبيان يرى أن الكتاب «سوبر روسي». ويسمى آراء باسترناك «ذات النزعة السلافية» ويجد في الرواية دعوة لأفكار الرسالة الروسية .
وهنا يجب الاعتراف بأن هذا النقاش لم تفرضه الرواية نفسها. بقدر ما فرضه زمن مناقشتها. فالمشاكل القومية الآن حادة بشكل غير عادي. حتى إنها تتخذ شكلا مرضيا. ولكن أغلب الظن أنها كانت تشغل بال باسترناك أقل بكثير مما تشغل النقاد والباحثين المعاصرين الذين يتحدثون عما يقلقهم هم، لا عما كان يثير اهتمام مؤلف الرواية. ومما يثير الجدال أيضا موضوع تقويم المستوى الفني لهذا العمل. فالبعض يرونه إخفاقا إبداعيا واضحا. وآخرون يشيرون إلى مميزاته الأسلوبية. ومميزاته كجنس أدبي. والتي بدونها يمكن أن يبدو العمل- ولوحتى للوهلة الأولى-عملا ضعيفا.
|