يقفزون أمامي كالأشباح .. في كل مكان أراهم .. أغمض عيني فتخترق أذني أصواتهم .. أخفي وجهي وراء صحيفة أو مجلة فيبرزون من بين السطور يخرجون ألسنتهم في سخرية وتشف، أهرب إلى التلفزيون الفضائي فيطلون برؤوسهم من نافذة الشاشة بوجوه مكفهرة وعيون ناظرة لا لشيء .. فأين المفر؟! لا مجال لنا إلا الاستسلام لعبثهم واستفزازاتهم المستمرة. إنهم مخلوقات غريبة كأنهم هبطوا من عالمٍ آخر، سحناتهم ملامحهم لا تختلف عن ملامح العاديين لكنهم حين يتكلمون تفاجأ بهم يتكلمون بلغة غريبة لا تفهم منها شيئا كأنهم يتكلمون بغير العربية لا نفهم منها حرفاً.
المشكلة أن كل المحاولات التي بُذلت لجعلهم يتحدثون بلغة مفهومة باءت بالفشل ربما تعصباً منهم للغتهم وتعاليهم وازدرائهم لكل ما هو مألوف مفهوم.
تلتقي بأحدهم فتقول له: «صباح الخير» فيرد بقوله:
في جثث الأشعة ..!
أو تصادف أحدهم ذات مساء فتحييه: «مساء الخير» فيرد:
بعض رماد الكرامة ..!
إذا ما وجدت واحداً منهم متأملاً وكسرت جدار صمته لتجره للحديث عن الجو، مثلاً: ما أجمل الجو في هذا اليوم!
يرد بقوله بعد طول تأمل في السماء:
أرى زرقة برعمة الغيم/ الراحل في رمق الأجنحة/ نبض عروقي في نبض عروق الفضاء/ تتفجر قبل بزوغ العشاق/ فأن المطر المشتاق..!
تفتح معه حواراً في السياسة بسؤالك:
ما رأيك في الوضع العربي الراهن:
يرد بحماس وحرقة ملحوظة:
إذا يرقص الشهداء/ ندير مفتاح الخطايا/ نزيح عنّا الموت/ نركض في الروائح .. والدرب معصية.
تسمع منه مثل هذه العبارات فتصاب بقشعريرة وهزة بدن من هذا الهذيان.
تغيِّر الحديث لتنتقل معه في الحديث عن الفن والأدب متمثلاً الجديّة في حديثك مثله:
ما هو مستقبل الحركة الأدبية العربية المعاصرة؟.
ليكن الأدب مستديراً/ في براكين التفجر/ فمن يأتي إليّ؟ بزبد الكلام ورغوة الشعر/ من هذا القبر العربي.
تشعر بالغثيان والصداع من هذه الطلاسم التي تلف الرأس، تشعر أنك بحاجة لأن تفر بجلدك هارباً! لكن مثل هؤلاء كثيرون يواجهونك في كل مكان بأعمال ضبابية تصر على اقتحام كل الصفحات الأدبية والثقافية في مجلاتنا وجرائدنا.
إنها تلتذ في تعذيب القارئ وتطفيشه تحت شعار «يا حنّا يا القارئ» مدفوعة بعوامل سادية متأججة، كأنها تقول للقارئ بصراحة فاحشة: «إذا لم تفهم ما نقول فأنت حمار، وإذا ادعيت أنك تفهم ما نقول فأنت أيضاً حمار».
تخيّل معي أن عنترة وهو مصاب بحب عبلة ركبته موجة الحداثة أخذ يقول فيها شعراً:
أيتها الحبيبة/ من مقل المعابر/ أعبر إليك/ مدججاً بدماء الصحراء/ بأجنحة الخيول/ برائحة الصهيل/ على عرق المسير/ وركب الحمير/ وانتحار الجهات/ أرحل إليك/ ذبابة في عينيك.
أتصور أن عبلة وهي تسمع هذه الخزعبلات وهو في قمة حماسته الشعرية تخرج سكيناً من تحت ملابسها وتنهال بها طعناً عليه في إطار حقها المشروع في الدفاع عن نفسها حتى لا تعير بهذا الشعر، وأتصور أن أباه خوفاً من أن تعيّر قبيلته به يقول له بدلاً من قولته المشهورة «كر وأنت حر» يقول له: «أسكت وأنت حر».
|