Monday 2nd December,200211022العددالأثنين 27 ,رمضان 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

دفق قلم دفق قلم
صعودٌ وهبوط
عبدالرحمن صالح العشماوي

تختلف المقاصد، وتتباين الأهداف، وتتفاوت الهمم، فالناس ليسوا على مستوى واحد في هممهم وأهدافهم ومقاصدهم، وهذا هو سرُّ الفرق الكبير بين صاحب الهمَّة العالية، والمتهاوي في أودية الانهزام الروحي والنَّفسي، والإنسان حيث يضع نفسه، فإما أنْ يرقى بها في مراقي الكرامة والعزَّة والخلق الفاضل النبيل، وإما أن يهبط بها إلى حضيض المذلّةِ والاستسلام للهوى والهوان، ولكلٍّ وجهةٌ هو مولِّيها، الصاعد في صعوده، والهابط في هبوطه، ولكنَّ الطريق الصحيح هو ما دعانا إليه الله سبحانه وتعالى في قوله: {فّاسًتّبٌقٍوا الخّيًرّاتٌ}، هنا أمرٌ بالاستباق إلى الخيرات، وهذه دعوةٌ قرآنيةٌ صريحةٌ إلى الصعود والرُّقي لا إلى الهبوط والتدنِّي.
والإنسان يميل إلى كلِّ ما له صلةٌ بما اتَّجه إليه، ويستثقل ما عداه، وربما تجاوز ذلك إلى محاربة كلِّ ما يصطدم بما يريد، وهنا يصل إلى مرحلة الانغلاق، وعدم الوعي والاستيعاب، حيث تصاب بصيرته بالعمى فما يرى حقائق الأشياء، وإذا رأى حقائق ناصعةً حاد عنها يميناً ويساراً بصورةٍ لو تأمَّلها بعين بصيرته السليمة لسخر من نفسه.
ذلك «فرعون»، هبط إلى حضيض هوى النفس، وهو يظنُّ أنَّه يرقى ويعلو، كانت بصيرته العمياء لا ترى إلا «شهوة النفس وهواها»، وتنفر مما عداها، وإلا فإن عقله - لو لم يضيِّعه في سراديب الهوى - كان سيدرك تمام الإدراك أنه قَدْ هوى إلى أسفل سافلين حينما قال: «أنا ربكم الأعلى»، ولكنَّه ظلَّ في وهمه حتى إذا أيقن بالهلاك بين الأمواج الهائجة، قال: { آمّنتٍ أّنَّهٍ لا إلّهّ إلاَّ الذٌي آمّنّتً بٌهٌ بّنٍو إسًرّائٌيلّ} . فقال له الله: «الآن»؟!، وما أقساه من سؤال.
والذين يهبطون بأنفسهم لا يرون الوجوه الحقيقية للأشياء، ولا يحتملون ما يصادم باطلهم من الأقوال والأفعال، ويستثقلون التوجيه والنصيحة كلَّ الاستثقال، وهنا تكون «الطامة الكبرى» بالنسبة إليهم لو كانوا يفقهون.
نقرأ في السيرة لرجال «أصحاب عقول» راجحة ولكنهم غيبوها وراء أسوار الهوى والكبر والتعالي على الحق فما دلتهم على الخير، وحينما أراد الله لهم ان ينكشف الغطاء أصبح ما كان ثقيلا على نفوسهم حبيسا إليها.
اللَّحظة الحاسمة هي التي تنقل الانسان من سيطرة الوهم إلى ساحات اليقين الخضراء، وهذه اللحظة لا تأتي من فراغ، وإنما تحتاج إلى مجاهدة للنفس والهوى والشيطان ومحاربة للسيطرة البغيضة التي تمارسها رغبات النفس ورفقاء السوء على الانسان، هذا عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - كان توَّاقا إلى بهرج الحياة فكان لا يستمتع إلا بما يناسب هذا التَّوق، ولهذا كان يستخشن ناعم الثياب - وهو في هذه الحالة -، وحينما ترقى بنفسه وأصبح يتوق الى الجنة، صارت متعتة الكبرى فيما يعين على هذا التَّوق وذلك الترقِّي ، ولهذا أصبح يرى خشن الملابس ناعما في هذه الحالة.
كم من منحرف او عاص يعترف بعد أن منَّ الله عليه بالهداية، أنه كان يستثقل الصالحين والدعاة الناصحين، وكان يراهم نشازا في الحياة، وان هذا الاحساس هو الذي أخره زمنا عن سلوك سبيل التوبة والصلاح.
وكم من غافل عن نفسه، مشغول عن آخرته، مأسور بقيود رغبات نفسه يفقد لذة الطاعة، ومتعة العبادة، لأنه استسلم لغفلته، وترك نفسه على سجيتها تدعوه إلى ما تريد من رغبات وشهوات. والانسان - حيث يضع نفسه - فإما الى الأعلى لأن الحق أعلى، وإما الى الأسفل لأن الباطل أسفل.
وقديما قال قوم لوط {أّخًرٌجٍوا آلّ لٍوطُ مٌَن قّرًيّتٌكٍمً}. ، أمر صريح بالمواجهة واستثقال واضح لآل لوط، لماذا؟ { إنَّهٍمً أٍنّاسِ يّتّطّهَّرٍونّ } . انظروا معي الى هذه البصائر العمياء، التي تنادي بالتخلص من المتطهرين الطائعين، انه هوى النفس الذي يعمي بصر صاحبه، ويصم اذنه.
وهناك في موضوع آخر من القرآن يقول تعالى: {وّإذّا قٌيلّ لّهٍمً آمٌنٍوا كّمّا آمّنّ الن اسٍ قّالٍوا أّّنٍؤًمٌنٍ كّمّا آمّنّ السٍَفّهّاءٍ } . سبحان الله يسمون المؤمنين سفهاء - كما نرى - غاية العمى في البصيرة، نسأل الله السلامة، ولهذا استحقوا ان يرد الله سبحانه وتعالى كلمتهم عليهم فيقول: {أّّلا إنَّهٍمً هٍمٍ پسٍَفّهّاءٍ $ّلّكٌن لاَّ يّعًلّمٍونّ }. وهو توكيد قرآني واضح استخدمت فيه «ألا» التي تنبه الذهن إلى شيء مهم، و«إنَّ» التي تستخدم للتأكيد، فهم إذن «سفهاء»، ولكن مشكلتهم الكبرى أنهم «لا يعلمون».
ولهذا فإنَّ من واجبنا أن نتناصح بمودة ومحبة حتى لا نقع في هذا الخندق الخطير ونحن لا نشعر، وينبغي ان يكون تناصحنا نابعاً من حرصنا على مصلحة بعضنا.
جدير بنا أن نتداعى على مائدة الحق «تعال بنا نؤمن ساعة»، حتى نرقى بقلوبنا وعقولنا الى المستوى الذي لا نستثقل فيه التوجيه والنصح والارشاد، بل نسعد بها، ونراجع أنفسنا على ضوئها، حتى لا نكون ممن حبطت أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
كثير من أصحاب «الساحة الفنية» الذين منَّ الله عليهم بالتوبة يؤكدون - رجالا ونساء - أنهم كانوا مصابين بعمى البصيرة وأنَّ غبارا كثيفا زال عن عيونهم، وغشاوة ثقيلة رفعت عن قلوبهم بعد توبتهم، فأصبحوا بفضل الله عليهم، يرون الأشياء على حقيقتها.
ونحن ندعو بدعاء نبوي كريم فنقول: «اللهم ارنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وارنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه»، وفي ذلك جلاء للقتام، وكشف لأستار الظلام.
إشارة:


جُمع الخير الذي نطلبه
في هدى الله ونهج المصطفى

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved