Saturday 23rd November,200211013العددالسبت 18 ,رمضان 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

أكُلَّما اشتهيتم اشْتريتُم أكُلَّما اشتهيتم اشْتريتُم
د. عبدالحليم بن ابراهيم العبداللطيف

حقاً إن المؤمن لينظر بنور الله، هذه حكمة جليلة قالها أحد سلفنا الكرام وهي تنطبق تماماً على واقع البعض هذه الأيام وهم قليل بحمد الله أما واقع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بوجه عام فيبشر بالخير وسلوك النهج القويم بإذن الله، وبمناسبة شهر الصوم الكريم وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تعيش أجواء روحية عبقة معمورة بذكر الله وتلاوة كتابه والجود بما لديهم نحو اخوانهم المحاويج.
ولا يتم ذلك ويتحقق الغرض الأسمى من فريضة الصيام إلا بحمل النفس على فعل الخير، والبعد عن الاسراف في جمع وتناول بعض الأطعمة التي لا لزوم لها، وإذا كان الشرع المطهر أباح لنا الحلال من الطيبات فهو بجانب ذلك كله يأمر الأمة ذات الصفة الوسطية بين الأمم في الاعتدال في المأكل والمشرب والملبس { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وقد قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله (الاسراف في الأكل مذموم) كما كره الشيخ رحمه الله الأكل كثيرا حتى يتخم وحرَّم أيضا،.
وقد استدل الفقهاء رحمهم الله على عدم جواز الأكل بعد الشبع بأدلة كثيرة وفي مقدمتها قول الحق سبحانه «وكلوا إلخ.. وتربية الرسول في هذا وهديه أكمل تربية وأفضل هدي، فقد كان يأكل ما تيسر من حسن ومستلذ ليكون قدوة للمعسرين وهم جل أصحابه وللموسرين وهم قليل، حيث الطعام والشراب ضرورة بشرية، وقد أخطأ فيه فريقان من البشر على مر العصور فريق البخلاء والغلاة في الدين، وفريق المسرفين المترفين، الذين يجمعون من الطعام ما لا يأكلون، ويأكلون أحيانا قبل تحقق الجوع، ويشربون على غير ظمأ.
إن الاقتصاد في المعيشة والدقة في كسب المال وصرفه لهي من صفات المسلم الذي أوجبه القرآن وتربى على سنة محمد صلى الله عليه وسلم في التدبير وعدم التقتير واحترام هذه النعمة العظيمة مجتنبا ما حظره الشرع من الاسراف والتبذير والبخل واتباع ما حث عليه ورغب فيه من القصد والاعتدال في النفقات .
وشهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن مدرسة عظيمة لهذه الأمة لتبلغ رشدها وتبني مجدها وتقدر حق التقدير عصب حياتها وهو المال والمصدر المهم من مصادر بناء قوتها وعزتها بدلا من صرفه واضاعته في أمور لا لزوم لها جهلا بطرق الاقتصاد الصحيح وإقامة مصالح الأمة خاصة في مثل هذا الزمن الذي لم يسبق له مثيل في أزمنة التاريخ المختلفة من حيث توقف قيام مصالح الأمم ومرافقها ومستلزمات حياتها وعظم شأنها على الحال.
وأمم اليوم تتنافس في أمرين:
البراعة والقدرة في الكسب، والاحسان في الاقتصاد، والمسلم في مدرسة الصيام والقيام وتلاوة القرآن حريص كل الحرص على نفع ورفع الأمة، فلا يصوم صوما آليا غير مستفيد من روحانية الشهر ومثله وآدابه ومعطياته الخيرة، والأموال جعلها الله قياما للناس، تقوم وتثبت بها منافعهم ومرافقهم ودولهم وشعوبهم،.
ويقول البلاغيون ليس هناك أي كلمة تقوم مقام هذه الكلمة العظيمة (قياما للناس) في الحث في القصد والاقتصاد وبيان منافعه والتنفير من الاسراف والتبذير الذي هو شأن السفهاء والبلهاء الذين لا هم ولا قصد لهم، والهدي القرآني والنبوي بعمومه يقول إن مناف سعكم ومصالحكم وانتظام حياتكم لا تزال صحيحة سليمة مستقيمة ما دامت أموالكم في أيدي الراشدين المقتصدين منكم الذين يحسنون الكسب والانفاق ويتقيدون بقيود وحدود الشرع المطهر يحسنون كسبها وتثميرها وتوفيرها وانفاقها ولا يجاوزون الحاجة في ذلك فإذا وقعت هذه الأموال في زيدي السفهاء المبذرين المسرفين الذين يتجاوزون حد الشرع والحاجة في نفقاتهم تداعى ما كان من تلك البناء شامخا وسقط ما كان من تلك المصالح قائما فهذا الدين بعمومه دين الوسطية والاعتدال، ولذا قال الحق سبحانه واصفا عباده الصالحين {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} فهي إذاً شارحة وموضحة للفظ (قياماً) وقد نهى القرآن عن الاسراف والتبذير حتى في مقام الإنفاق والبذل في الوجوه المختلفة وبين سوء عاقبة ومصير المبذر، كما في الآيات من سورة الاسراء.
وفي الأثر (ما عال من اقتصد) ويقال في الأثر أيضا (الاقتصاد نصف المعيشة) وفي الأثر أيضا (من فقه الرجل رفقه في معيشته) والتبذير فسره بن مسعود وابن عباس بأنه الانفاق في غير حق، وقال مجاهد: (لو أنفق إنسان ما له كله في الحق لم يكن مبذلا ولو أنفق مداً في غير حق كان مبذراً) لأنه لم يؤد حق النعمة إذ حقها إنفاقها في الطاعات والحقوق غير متجاوزين ولا مبذرين كما يفعله غيرهم ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وبهذه العبارات الحية الندية والصور الموجبة يستجيش القرآن وجدان البر والصلة والرحمة في قلوب الناس ليرحم بعضهم بعضا ويرفق بعضهم ببعض ليضع القاعدة ويقيم الأساس أساس التواصل والتراحم والتعاون بدلا من الاسراف والتبذير، وليوحد البواعث والأهداف إعلانا لقيمة هذا البر عند الله، وفيه عوض وأمل وتجمل، والتوازن هو القاعدة الكبرى التي بني عليها هذا الدين والاسراف والتبذير والبخل والتقتير يخل بهذا التوازن الدقيق، ونهاية البخل والاسراف يرسم لها القرآن قعدة حسيرة ذميمة {فّتّقًعٍدّ مّلٍومْا مَّحًسٍورْا}والحسير لغة الدابة تقعد عن السير فتقف من الضعف والعجز، وكذلك البخيل يحسره بخله فيقف، والمسرف كذلك ينتهي به سرفه الى الافلاس إلى وقفة الحسير وفي الصوم الصحيح خير تربية للإنسان على القوة والمنعة والصبر والجلد وقهر الشهوات البهيمية وفيه من التجلي والاشراق والانعتاق من رق الشهوات والتسامي في المطالب النفيسة، والبعد عن الدنايا والرغبات الخسيسة وفيه تربية جازمة عازمة على الجد والحزم ورياطة الجأش، فهو يعلم الناس كيف يترفعون عن مظاهر الحيوانية التي غايتها الأكل والشرب والمتع البهيمية واشباع الغرائز، يعلمهم الصوم كيف يسمون بأنفسهم الى مستوى تغبطهم الملائكة المقربون عليه الذين غذاء أرواحهم ذكر الله وعبادته وحسن مراقبته لأنه يربي في المسلم ملكة الصبر وقهر النفس يصفي النفوس من علائق الشهوات وأدرانها ويخلصها من الانهماك في متع الحياة، وحتى لانكون الهدف والغاية.
والصوم الصحيح يمحو سلطان المادة وطغيانها على سلوك البشر، حقا إن الصوم الصحيح عبادة مميزة تطهر القلب وتوقظ الروح، وتسمو بالنفس النفيسة الى أشواقها كما تطلق النفس الحبيسة في المطعم والمشرب والملبس والمسكن في الشهوات والملذات والرغبات وغير ذلك من خدع الحياة تطلق النفس إلى آفاقها العالية، وكل هذا يصوره القرآن بأخصر وأبلغ عبارة «لعلكم تتقون» وهو لفظ حي موح دقيق مصور معبر شفاف رفاف شيق كأنه مصباح وهاج في ليل بهيم، وإن من ينظر الى أسواق المسلمين وركض البعض وراء أمور قد تكون لا لزوم لها ليذكر ويتذكر ذلك القول المبين (أكلما اشتيهتم اشتريتم) ولا يملك إلا أن يقول ويتحسر (يا حسرة على العباد) والله أعلم.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved