Saturday 16th November,200211006العددالسبت 11 ,رمضان 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

حقيقة الصيام وحكمه وحكمته وفلسفته حقيقة الصيام وحكمه وحكمته وفلسفته
د. عبدالله بن سعد الرويشد

فرض الله شهر رمضان لكي يكون مدرسة روحية لعبادة المسلمين ليزكي فيها نفوس المؤمنين وليهذب فيها أخلاقهم وليطهر ظاهرهم وباطنهم. ولقد كان الصحابة والتابعون يعدون أنفسهم للقاء الله ويهيئون أرواحهم للعبادة في رمضان ليتزودوا بزاده ولينهلوا من فيضه. وأرجو الله ان يجعل رمضان ملء قلوبنا وصدورنا ونور أبصارنا وبصائرنا وأن يجعلنا من الذين عظموا رمضان بأعمالهم وكرموه بعبادتهم وأكثروا فيه من الحسنات وفعل المكرمات بالإكثار من العبادات والطاعات. إذ يشرق على العالم الإسلامي هذه الأيام شهر من أعظم الشهور يمناً وبركة وأعمها منفعة وفائدة وارفعها منزلة ومكانة، شهر أجَلَّه الله وعظمه الرسول صلى الله عليه وسلم وكرمة المسلمون ذلك هو شهر رمضان الذي خصه الله دون سائر الشهور بخلال الخير وخصال المعروف، شهر الصيام والقيام، شهر الجود والكرم شهر البر والإحسان فيه أنزل القرآن، وفيه ليلة خير من ألف شهر وفيه أعطى الله نبيه محمد الرسالة وفيه كانت غزوة بدر التي وضع الله فيها أول حجر للإسلام إذ نصر الله المسلمين في هذه المعركة نصراً مؤزراً بإنزاله الملائكة غطاء جوياً في هذه المعركة الفاصلة الخالدة وفيه فتح مكة وهي آخر شوط بين الرسول وقريش، أوله عيد وآخره عيد تغلق فيه أبواب الجحيم وتصفد فيه الشياطين إلى غير ذلك من الخصائص والمزايا. فليتنا نحن المسلمون نقدره قدره وننزله منزلته ونحقق كل مافيه من فضائل وآداب. وإن مجيء رمضان وذهابه، بدءه وختامه آيات بينات لأولي الألباب، وعظات بالغات لقوم يعقلون، فكل شيء في الدنيا يجيء ويذهب ويزيد وينقص ويتحرك ويسكن ويتغير ويتبدل، دليل عظيم على فناء الحياة والأحياء وزوالهم وان البقاء والدوام لله الواحد القهار. «كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون». وما مجيء رمضان وذهابه إلا دورة من دورات الفلك التي يقطع الدهر بها مراحله، حتى تصل الدنيا بركبها إلى أجلها المحتوم. حقاً لقد دار الفلك دورة من دوراته وقطع العالم شوطاً من أشواطه وأتمت الدنيا فصلاً من رواية الحياة وطوى الإنسان صحيفة من كتاب أجله المحتوم وبين أول ذلك وآخره حدث كثير من التطورات والتقلبات التي إن دلت على شيء فإنما تدل على عبودية الإنسان وقدرة الله، فكم ولد إنسان لم يكن مولوداً، وكم مات إنسان كان موجوداً، وكم اغتنى فقير ما كان يطمع في الغنى وكم افتقر غنى ما كان يخطر له الفقر على بال. «يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار». حدث ذلك كله ويحدث والعالم في سكراتهم يعمهون وفي جهالتهم يتخبطون، وفي دنياهم يسرحون ويمرحون، حتى أظلمت أرواحهم وجمدت قلوبهم وضلت عقولهم وماتت ضمائرهم ومرضت نفوسهم وانهارت أخلاقهم، وضعف بينهم الوازع الديني، بل لقد استيقظت فيهم الأهواء وتمكنت فيه الشهوات، فكان لابد أن يجيء رمضان ليبعث العالم الإسلامي من رقدته وينبهه من غفلته ويوقظه من نومته، ويكفكف من تلك المادية العمياء التي غرق الإنسان فيها إلى أذنيه، وكان لابد من مجيء رمضان ليظهر هذه القلوب المتحجرة بنفحاته الطيبة وليعالج هذه النفوس المريضة بعملية القيام، وليرشد هذه العقول الضالة بنور التقوى، وليثلج هذه الصدور الضالة ببرد الإيمان وليطهر الألسنة الآثمة بحلاوة القرآن وليغسل تلك الأيدي الظالمة بماء الإحسان ولينهض بالإنسان كله إلى درجة عالية رفيعة حيث تغفر الذنوب وتكفر الخطايا وتضاعف الحسنات وترفع الدرجات ويرضى الله سبحانه وتعالى فيا له من شهر ملؤه الإكبار والإجلال والتكريم والتعظيم وكيف لايكون كذلك وقد احتفل الله به في السماوات العلا فزخرف من أجله الجنان ففتحت أبوابها للمؤمنين الصائمين. كل ذلك تعظيماً لرمضان وإكراماً للصائمين بل لقد احتفل به المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها فهذه هي فضائل شهر رمضان وتلك هي منزلته في عالم السماء منزلة كريمة ومكانة عظيمة وقدر كبير، ومن أجل ذلك احتفل به الأتقياء الصالحون فملأوه بالخير والعبادة وأكثروا فيه من الطاعة والصدقة والاحسان للفقراء واحيوا كل ايامه ولياليه يتلون فيه كتاب ربهم ويتدارسون فيه سنة نبيهم، ويتخلقون بأخلاق الصحابة والتابعين، فكان لاينتهي شهر رمضان إلا وقد صفت نفوسهم وزكت أرواحهم وامتلأت صدورهم وقلوبهم بالآيات البينات لأنهم قدروه قدره وأنزلوه منزلته، وملأوه بالجود والكرم والذكر والتسبيح والتهليل والتحميد والإحسان إلى الفقراء والمساكين {وّالًبّاقٌيّاتٍ الصَّالٌحّاتٍ خّيًرِ عٌندّ رّبٌَكّ ثّوّابْا وّخّيًرِ أّمّلاْ}. فيجب علينا نحن المسلمين ان نعلم ان رمضان فرصة ثمينة فنغتنمه وأيام سعيدة فنبتدرها لكي نظفر إن شاء الله بالمغفرة والرضوان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وماتأخر» وقال عليه الصلاة والسلام «من أعطش لله نفسه في يوم صائف أرواه الله يوم الظمأ والفزع وثبت قدمه يوم نزول الأقدام» ويقول «إن في الجنة باباً يقال له الريان لايدخل منه إلا الصائمون» ويقول الله سبحانه {شّهًرٍ رّمّضّانّ پَّذٌي أٍنزٌلّ فٌيهٌ پًقٍرًآنٍ هٍدْْى لٌَلنَّاسٌ وّبّيٌَنّاتُ مٌَنّ الًهٍدّى" وّالًفٍرًقّانٌ فّمّن شّهٌدّ مٌنكٍمٍ الشَّهًرّ فّلًيّصٍمًهٍ وّمّن كّانّ مّرٌيضْا أّّوً عّلّى" سّفّرُ فّعٌدَّةِ مٌَنً أّّيَّامُ أٍخّرّ يٍرٌيدٍ اللَّهٍ بٌكٍمٍ پًيٍسًرّ وّلا يٍرٌيدٍ بٌكٍمٍ پًعٍسًرّ وّلٌتٍكًمٌلٍوا الًعٌدَّةّ وّلٌتٍكّبٌَرٍوا پلَّهّ عّلّى" مّا هّدّاكٍمً وّلّعّلَّكٍمً تّشًكٍرٍونّ}.
فهذه آية كريمة من كتاب الله تبين لنا نحن الصائمين فضيلة هذا الشهر الكريم وانه تعالى قد أنزل القرآن فيه تشريفاً لقدره وإعلاء لذكره وتنويها بمكانته بين الشهور، وكفى بنزول القرآن فيه مكرمة وتشريفاً، فنحن نعرف منزلة هذا الشهر في الإسلام ومكانته في الدين وان منزلته في السماء أعظم منها في الأرض، وان احترامه عند الملائكة أجل منها عند المؤمنين. لذا هناك سؤال يطرح نفسه؟ أي رمضان هذا الذي احتفلت به السماوات، ورحبت بمقدمه جميع الكائنات؟ أرمضان الأرواح والقلوب؟ أم هو رمضان الأجسام والبطون؟ وهذه هي النقطة الوحيدة التي يجب ان يقف عندها جميع المسلمين ليعلموا ما حقيقة رمضان وما هي رسالته إلى المسلمين وما حكمه وحكمة مشروعيته في الدين الإسلامي وهل هو كما عهدناه مجرد جوع وعطش، وفطر وإمساك ونوم وسهر وإغراق في الترف والملذات أم هو رمضان آخر فيه من المعاني السامية والأغراض النبيلة ما يجعله جديراً باحترام الله له وتقدير المسلمين إياه؟ نعم يجب ان يعرف المسلمون ما هو رمضان الصحيح لكي يحققوا تعاليمه وآدابه، ولكي يعرفوا قيمة صيامهم وقيامهم ولينفذوا فيه آداب هذا الدين العظيم فقد فرض الله الصيام فهو ركن من أركان الإسلام وحكمته وفلسفته ان يذوق الغني الصائم آلام الجوع ومرارة العطش ومرارة المنع والحرمان فيساعد الفقراء والمساكين ويعطف على البائسين والمحتاجين. ولكي يعرف الفقير قيمة نعمته وان قلت، فيكبر عليها الصغير وليعرف العالم كله عظيم فضل الله عليه وجميل إحسانه إليه، إذ أن أبسط النعم قبل رمضان كالماء مثلاً، يكون من أعظمها في رمضان، ولكي يعرف الإنسان مدى غروره بنفسه وجهله بها، لأن الإنسان إذا عرف أن حياته موقوفة على لقمة من الخبز وشربة من الماء، عرف حقيقة عجزه، ومبلغ ضعفه وشدة احتياجه إلى الله ومن أهداف رمضان السامية والخالدة ان يرتبط العالم الإسلامي كله برباط واحد وثيق هو رباط الصيام، وليجمع صفوفهم تحت لواء واحد هو لواء الإسلام. فرمضان رسالة روحية عالمية فيها من سعادة الفرد والمجتمع ما لو علمه المسلمون، وعملوا به لقادوا العالم كله إلى الخير والسلام، ولأرشدوا الإنسانية كلها إلى الهدى والفضيلة. ولقد أدرك السلف الصالح ما في الصيام من حكمة وفوائد فكانوا مثلاً أعلى في احترامهم لرمضان ودليل ذلك أنهم صاموا بكليتهم إلى الله فصاموا ببطونهم عن الطعام والشراب، وبنفوسهم عن الشر والطمع وبقلوبهم عن الحقد والحسد وبعقولهم عن المكر والخداع، وبألسنتهم عن الغيبة والنميمة وبعيونهم عن الأعراض والحرمات وبآذانهم عن الفحش والغناء، وبأيديهم عن البطش والايذاء وبأقدامهم عن السعي إلى الفساد والظلم.
حتى إذا ما أذن المغرب أفطروا على الحلال من الطعام والشراب وأشركوا معهم اخوانهم في الله من الفقراء والمساكين ثم اتجهوا إلى بيوت الله فعمروها بالذكر والصلوات والتسبيح والتحميد، والدعاء والاستغفار فلا يزالون كذلك حتى مطلع الفجر.
وهكذا كان نهارهم طاعة وصيام، وليلهم تعبد وقيام. وعلى ذلك لا ينتهي رمضان إلا وقد صفت أرواحهم وقوي إيمانهم وغفرت ذنوبهم إن شاء الله، وأحب فقيرهم غنيهم، وقرب غنيهم من فقيرهم ورضي الله عنهم ورضوا عنه، فنصرهم على أعدائهم، وحقق لهم كل أمل ورجاء لأنهم وقفوا جميعاً كتلة واحدة أمام الشيطان {أٍوًلّئٌكّ حٌزًبٍ اللَّهٌ أّلا إنَّ حٌزًبّ اللَّهٌ هٍمٍ الًمٍفًلٌحٍونّ }.
أما رمضان كثير من الناس في هذه الأيام هو الاضراب عن الطعام في وقت معين ثم يقبل عليه بنهم وشره في وقت آخر فيعوض ما فاته منه، وهذا لعمري صيام لا يعالج أرواحاً ولايهذب أخلاقاً، ولا يقهر شهوة ولا يقاوم شيطاناً. فيجب أن نكون مسلمين حقاً .ومؤمنين صدقاً فنحن نعيش رمضان فلنجعل منه موسماً للطاعة والعبادة، ومدرسة للخير والفلاح وميداناً للتقرب إلى الله.. فقد شرع الله لنا صيام شهر رمضان وكلفنا القيام فيه ليعالج به نفوسنا ويداوي به قلوبنا، فلا نقصر في صيامه وقيامه. ولنحافظ على فضائله وآدابه ولنجاهد فيه أنفسنا وشهواتنا لكي يضاعف الله لنا أجورنا ويرفع درجاتنا. وخير ما أختم به مقالي هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتاكم رمضان شهر خير وبركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب الدعاء ينظر الله إلى تنافسكم فيه ويباهي بكم ملائكته في السماء فأروا الله فيه من أنفسكم خيراً فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل».

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved